أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا: الْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ الَّذِي أَخَذَهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحْرُمُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ: كُلْ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ»، وَلِأَنَّهُ تَنَاوَلَ اللَّحْمَ دُونَ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الصَّيْدَ أَوَّلًا فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا وَتَنَاوُلُ الْكَلْبِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ لَا يَحْرُمُ مَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَى صَاحِبِهِ، كَمَا لَوْ فَتَّشَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ وَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْقَدِيدِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: ٤] وَحِينَ أَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى صَاحِبِهِ حِينَ لَا يَتْرُكُهُ حَتَّى يَشْبَعَ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ انْتَسَخَ أَوْ مُرَادُهُ إذَا وَلَغَ فِي دَمِ الصَّيْدِ، وَعِنْدَنَا ذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يُحَرِّمُ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ بِفِعْلِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ، وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ إذَا أَكَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ سَعْيَهُ كَانَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ انْعَدَمَ الْإِرْسَالُ أَصْلًا.
(ثُمَّ) ذَكَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْبَازِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَيَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ: كُلْ، وَقَالَ: تَعْلِيمُ الْبَازِي أَنْ تَدْعُوَهُ فَيُجِيبَكَ، وَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَضْرِبَهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ وَبِهِ نَأْخُذُ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَازِي وَالْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ لَا يَحِلُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
(أَحَدُهُمَا) أَنَّ جُثَّةَ الْكَلْبِ تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُضْرَبَ لِيَدَعَ الْأَكْلَ، وَجُثَّةُ الْبَازِي لَا تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ. (وَالثَّانِي) أَنَّ الْكَلْبَ أُلُوفٌ، وَعَلَامَتُهُ عِلْمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِطَبْعِهِ، وَإِجَابَتُهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِطَبْعِهِ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ. بَلْ يَكُونُ عَلَّامَةَ عِلْمِهِ تَرْكُ الْأَكْلِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ طَبْعِهِ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا، وَالشَّرْطُ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا، وَالْبَازِي مُنَفِّرٌ فَأَجَابَتْهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ خِلَافُ طَبْعِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عَلَامَةَ عِلْمِهِ دُونَ تَرْكِ الْأَكْلِ، فَهُوَ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ، فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ، فَإِنَّهُ مُسْتَوْحِشٌ كَالْبَازِي، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْكَلْبِ يَشْرَبُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الصَّيْدِ، وَبِهِ نَأْخُذُ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يَحْرُمُ بِذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute