وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحِلُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا، وَمَوْتُهُ مِمَّا أَصَابَهُ، وَحَيَاتُهُ مَوْهُومٌ، فَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ حَقِيقَةً، وَهُوَ وُقُوعُهُ حَيًّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ، فَلَا يَحِلُّ بِدُونِ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ.
قَالَ: (وَالْكَلْبُ الْكُرْدِيُّ وَالْأَسْوَدُ فِي الِاصْطِيَادِ بِهِ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا كَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة: ٤] وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الِاصْطِيَادُ بِالْكِلَابِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَرْخِيَةِ الْآذَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا عِنْدَنَا، وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّمَ شَيْئًا مِنْ السِّبَاعِ حَتَّى جَعَلَ يَصِيدُ بِهِ مِثْلَ عَتَاقِ الْأَرْضِ وَغَيْرِهِ، فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مُعَلَّمٌ أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ.
قَالَ: (وَإِذَا كَمَنَ الْفَهْدُ فِي إرْسَالِهِ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْ الصَّيْدِ ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ)؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَهُوَ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْفَهْدِ أَنَّهُ يَكْمُنُ وَلَا يَعْدُو عَلَى أَثَرِ الصَّيْدِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ، وَلِأَنَّهُ تَحَقَّقَ مَا قَصَدَهُ صَاحِبُهُ بِالْإِرْسَالِ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ فَوْرَ الْإِرْسَالِ كَالْوُثُوبِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَهْدِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّمَكُّنَ مِنْ الصَّيْدِ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ الْإِرْسَالِ.
(قَالَ:) وَكَانَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: لِلْفَهْدِ خِصَالٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ (مِنْ ذَلِكَ) أَنَّهُ يَكْمُنُ لِلصَّيْدِ حَتَّى يَسْتَمْكِنَ مِنْهُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يُجَاهِرَ بِالْخِلَافِ مَعَ عَدُوِّهِ، وَلَكِنْ يَطْلُبُ الْفُرْصَةَ حَتَّى يَحْصُلَ مَقْصُودُهُ مِنْ غَيْرِ إتْعَابِ نَفْسِهِ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُ لَا يَعْدُو خَلْفَ صَاحِبِهِ حَتَّى يَرْكَبَهُ خَلْفَهُ وَهُوَ يَقُولُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيَّ فَلَا أَذِلُّ لَهُ؛ فَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يُذِلُّ نَفْسَهُ فِيمَا يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّمُ بِالضَّرْبِ، وَلَكِنْ يُضْرَبُ الْكَلْبَ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ فَيَتَعَلَّمُ بِذَلِكَ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّعِظَ بِغَيْرِهِ كَمَا قِيلَ: السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَبِيثَ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِهِ اللَّحْمَ الطَّيِّبَ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ إلَّا الطَّيِّبَ. (وَمِنْهُ) أَنَّهُ يَثِبُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ الصَّيْدِ وَإِلَّا تَرَكَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا أَقْتُلُ نَفْسِي فِيمَا أَعْمَلُهُ لِغَيْرِي، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ.
قَالَ: (وَإِذَا شَارَكَهُ فِي الصَّيْدِ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «وَإِذَا شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ» وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ فَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّ الصَّيْدَ عَلَيْهِ حَتَّى أَخَذَهُ أَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ سَبُعٌ حَتَّى أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَعَانَهُ عَلَى أَخْذِ الصَّيْدِ، وَبِهَذِهِ الْإِعَانَةِ تَثْبُتُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ، وَالْبَازِي فِي ذَلِكَ كَالْكَلْبِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ مَا لَيْسَ بِمُعَلَّمِ يُحَرِّمُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute