التَّعْجِيلِ مِنْ الْقُرْبَةِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ وَلِذَلِكَ إذَا جَعَلَ أَرْضًا لَهُ مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَيَأْذَنُ لَهُمْ أَنْ يَقْبُرُوا فِيهَا فَيَفْعَلُونَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ مَا يُخْلِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا وَيَقْبُرُوا فِيهَا إنْسَانًا وَاحِدًا، أَوْ أَكْثَرَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّسْلِيمَ يَتِمُّ بِهَذَا فَإِنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ حَصَلَ إذَا قَبَرُوا فِيهَا إنْسَانًا وَاحِدًا.
وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهَا خَانًا لِلْمُسْلِمِينَ وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فَدَخَلَهَا بِإِذْنِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ، أَوْ أَكْثَرُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَتِمُّ بِهَذَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْقَبْضُ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَفِعْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ كَفِعْلِ الْجَمَاعَةِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ وَهُوَ نَظِيرُ مَا جَعَلَ الشَّرْعُ أَمَانَ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَأَمَانِ الْجَمَاعَةِ.
ثُمَّ النُّزُولُ فِي الْخَانِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ مِنْ مَصَالِحِ النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: ٢٥] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: ٢٦] وَجَوَازُ الْوَقْفِ لِمَعْنَى الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلنَّاسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعَاشُ وَالْمَعَادُ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الدَّارُ بِمَكَّةَ فَيَجْعَلُهَا سُكْنَى لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِينَ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ عَلَيْهَا وَيُسْكِنُ فِيهَا مَنْ زَارَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَإِنْ مَاتَ لَمْ تَكُنْ مِيرَاثًا، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ حِينَ سَلَّمَهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ عَلَيْهَا فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ وَيَدِهِ.
وَالتَّسْلِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ يَكُونُ بِأَحَدِ الطَّرِيقِينَ إمَّا بِإِثْبَاتِ يَدِ الْقَيِّمِ عَلَيْهَا، أَوْ بِأَنْ يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِسُكْنَى بَعْضِ النَّاسِ فِيهَا بِإِذْنِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ دَارًا لَهُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ وَدَفَعَهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَهَا سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ، أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى رَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّقَرُّبَ بِمَا صَنَعَ. فَأَمَّا السُّكْنَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْكُنَهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ مِنْ الْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ وَالْحَاجُّ، وَكَذَلِكَ نُزُولُ الْخَانِ وَالدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ.
فَأَمَّا الْغَلَّةُ الَّتِي جُعِلَتْ لِلْغُزَاةِ فَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا إلَّا مُحْتَاجٌ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ مَالٌ يُمْلَكُ وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَمْلِيكِ الْمَالِ يَكُونُ مِنْ الْمُحْتَاجِ خَاصَّةً دُونَ الْغَنِيِّ بِخِلَافِ السُّكْنَى وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْغَنِيَّ مُسْتَغْنٍ عَنْ مَالِ الصَّدَقَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي بِمَالِهِ عَنْ الْخَانِ لِيَنْزِلَ فِيهِ وَعَنْ الدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مَا يَسْتَأْجِرُهُ؛ فَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَهُوَ نَظِيرُ مَاءِ السِّقَايَةِ وَالْحَوْضِ وَالْبِئْرِ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَالنَّاسُ يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ عَادَةً، وَلَا يَخُصُّونَ بِهِ الْفُقَرَاءَ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ بِخِلَافِ الْمُتَصَدِّقِ بِالْمَالِ.
ثُمَّ الْوَاقِفُ وَإِنْ أَطْلَقَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute