الْغُزَاةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمُرَادُهُ التَّقَرُّبُ، وَذَلِكَ بِصَرْفِ الْمَالِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ، وَفِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَصْنَافِ الصَّدَقَاتِ، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: ٦٠]، ثُمَّ يَصْرِفُ الصَّدَقَةَ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ الْغُزَاةِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ مَصْرِفًا فِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانُوا يُحْصَوْنَ، أَوْ لَا يُحْصَوْنَ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتَى ذَكَرَ مَصْرِفًا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالًا بَيْنَ النَّاسِ لَا بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ كَالْيَتَامَى فَحِينَئِذٍ إنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَالْفُقَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ وَتُصْرَفُ إلَى فُقَرَائِهِمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ فِي جَوَازِ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِهِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا.
قَالَ (وَإِنْ جَعَلَ أَرْضًا لَهُ مَسْجِدًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبَنَاهَا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَأَبَانَهَا مِنْ مِلْكِهِ فَأَذَّنَ فِيهِ الْمُؤَذِّنُ وَصَلَّى النَّاسُ جَمَاعَةً صَلَاةً وَاحِدَةً، أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ، وَإِنْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ مِيرَاثًا)؛ لِأَنَّهُ حَرَزَهَا عَنْ مِلْكِهِ وَجَعَلَهَا خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: ١٨]. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا، وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»، وَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيمَا جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَالصَّدَقَةِ الَّتِي أَمْضَاهَا، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَسْجِدًا إذَا أَبَانَهُ عَنْ مِلْكِهِ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْوَقْفَ يَتِمُّ بِفِعْلِ الْوَاقِفِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ إلَى الْمُتَوَلِّي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا مَا لَمْ يُصَلِّ النَّاسُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ، بَنَى عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ يُشْتَرَطُ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْهُ قَالَ إذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ يَصِيرُ مَسْجِدًا، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ بِالْجَمَاعَةِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ تَمَامَ التَّبَرُّعِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ بِدَلِيلِ الصَّدَقَةِ فَالْمَقْصُودُ بِهَا إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ، ثُمَّ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَهُنَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ فَلَا تَصِيرُ مَسْجِدًا قَبْلَ حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ مُنْفَرِدًا كَانَ أَوْ بِجَمَاعَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَنُوبُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فِيمَا هُوَ حَقُّهُمْ فَتُجْعَلُ صَلَاةُ الْوَاحِدِ فِيهِ كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي نُزُولِ الْخَانِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute