أَوْرَدَ هَذَا الْإِشْكَال، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْمُقَاسَمَةِ هُنَالِكَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الشَّرِيكِ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَمَشَّى فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ كَالْهِبَةِ مِنْ الشَّرِيكِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنَّ الْحَرْفَ الَّذِي يَتَمَشَّى: أَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ.
قَالَ: (وَإِنْ وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِأَحَدِهِمَا سِتَّمِائَةٍ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَمِائَةٍ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -). وَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ هِبَةِ الدَّارِ إذَا فَصَلِّ وَفَصْل سَوَاءٌ.
قَالَ: (رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ دِينَارًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهِ: جَازَ ذَلِكَ - اسْتِحْسَانًا -)، وَفِي الْقِيَاسِ: لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زَفَرَ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ، حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ وَلَا مَالَ لَهُ، وَلَهُ دِينٌ عَلَى إنْسَانٍ: لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينه. وَالْهِبَةُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمَالِ فَإِذَا أُضِيفَ إلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ كَمَا لَوْ، وُهِبَ مُسْلِمٌ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ لَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مِنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمَالِ، فَالْهِبَةُ مِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَقَبْضُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ إذَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ تَمَامَ عَقْدِ الْهِبَةِ بِقَبْضِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَقْدُ إلَى الدَّيْنِ، وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ، وَالْعَيْنُ غَيْرُ الدَّيْنِ
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَنَابَهُ فِي الْقَبْضِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَيَجْعَلُ قَبَضَ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَقَبْضِ الْوَاهِبِ، وَلَوْ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ وَهَبَهُ، وَسَلَّمَهُ: جَازَ وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ لِنَفْسِهِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي بَابِ الْهِبَةِ: الْمُعْتَبَر وَقْت الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ، دَلِيلُ مَا بَيَّنَّا مِنْ فَصْلِ الشُّيُوعِ، وَعِنْدَ الْقَبْضِ هُوَ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَكَذَلِكَ بِالْهِبَةِ وَالْمَقْبُوضِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً جُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ هُوَ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مَعَ حُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ فِيهِمَا، وَلَيْسَ الْبَيْعُ نَظِيرَ الْهِبَةِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنَ مَالٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مَعَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ بِالْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْن بِعِوَضٍ: جَازَ وَلَوْ، وَهَبَهُ مِنْهُ: جَازَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ حُكْمًا، وَلِهَذَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالشَّرْطُ فِي عَقْدِ التَّمْلِيكِ أَنْ يُضَافَ إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لَهُ، وَقَدْ وَجَدْتُمْ لُزُومَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَعِنْدَ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْهِبَةِ هُوَ عَيْنٌ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ.
قَالَ: (رَجُلٌ رَهَنَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَمْ يَجُزْ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ فَالْيَدُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ، فَلَا يَكُونُ الْأَبُ قَابِضًا لِوَلَدِهِ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَهُوَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ عَبْدَهُ غَاصِبٌ فَوَهَبَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute