فَكَذَلِكَ فِي التَّمْلِيكِ بِغَيْرِ بَدَلٍ. فَإِنْ قَالَ: دَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى: فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: سُكْنَى تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: عُمْرَى. وَالْكَلَامُ الْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِلتَّفْسِيرِ، وَبَيَانُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَك عُمْرَى، يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ عَيْنِهَا مِنْهُ عُمْرَهُ، وَيَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ مَنْفَعَتِهَا. فَكَانَ قَوْلُهُ: سُكْنَى، تَفْسِيرًا، أَيْ: لَك سُكْنَاهَا عُمْرَك، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: نُحْلَى سُكْنَى، وَقَوْلُهُ: هِبَةٌ سُكْنَى، أَوْ سُكْنَى هِبَةٌ، أَوْ سُكْنَى صَدَقَةٌ، فَهَذَا كُلُّهُ عَارِيَّةٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ: سُكْنَى، تَفْسِيرٌ لِلْمَحْمَلِ مِنْ كَلَامِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هِيَ لَك فَاقْبِضْهَا: كَانَتْ هِبَةً، وَلَوْ قَالَ: هِيَ لَك سُكْنَى كَانَتْ عَارِيَّةً، وَجَعَلَ قَوْلَهُ: سُكْنَى تَفْسِيرًا، وَكَذَلِكَ إذَا زَادَ لَفْظَةَ الْعُمْرَى وَالْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ، وَإِنْ قَالَ: هِيَ لَك هِبَةٌ عَارِيَّةٌ، أَوْ هِيَ عَارِيَّةٌ هِبَةٌ: فَهِيَ عَارِيَّةٌ. قَدَّمَ لَفْظَةَ الْهِبَةَ، أَوْ أَخَّرَهَا؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هِبَةَ الْعَيْنِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هِبَةَ الْمَنْفَعَةِ. وَقَوْلُهُ: عَارِيَّةٌ، تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْمُبْهَمِ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحْكَمٌ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَنْفَعَةَ، فَسَوَاءٌ قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ، فَالْحُكْمُ لَهُ وَإِنْ قَالَ: هِيَ لَك هِبَةٌ إجَارَةٌ كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ إجَارَةٌ هِبَةٌ فَهِيَ إجَارَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ مُحْكَمٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَنْفَعَةَ، وَلَفْظَةُ الْهِبَةِ تَحْتَمِلُ تَنَاوُلَ الْعَيْنِ تَارَةً، وَالْمَنْفَعَةِ تَارَةً أُخْرَى؛ فَكَانَ الْحُكْمُ لِلَّفْظِ الْمُحْكَمِ قَدَّمَهُ، أَوْ أَخَّرَهُ، وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَكُونُ إجَارَةً.
وَإِنْ قَالَ: دَارِي هَذِهِ لَك عُمْرَى تَسْكُنُهَا، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ: فَهِيَ هِبَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ: عُمْرَى، فَالْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلِاسْمِ، وَلَكِنَّهُ مَشُورَةٌ أَشَارَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ شَاءَ: قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَسَكَنَهَا، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَقْصُودِهِ أَنَّهُ مَلَّكَهُ الدَّارَ عُمْرَهُ لِيَسْكُنَهَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ التَّمْلِيكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: هَذَا الطَّعَامُ لَكَ تَأْكُلُهُ، أَوْ هَذَا الثَّوْبُ لَك تَلْبَسُهُ.
قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: وَهَبْت لَك الْعَبْدَ - حَيَاتَك وَحَيَاتَهُ - وَقَبَضَهُ: فَهِيَ هِبَةٌ جَائِزَةٌ)؛ لِأَنَّهُ مُلْكَهُ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ: وَهَبْت لَك. وَقَوْلُهُ: حَيَاتَك وَحَيَاتَهُ، فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ؛ فَكَانَ لَغْوًا، أَوْ فِيهِ إيهَامُ شَرْطِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْمَرْتُكَ دَارِي هَذِهِ - حَيَاتَك - أَوْ أَعْطَيْتهَا - حَيَاتَك - أَوْ وَهَبْت لَك هَذَا الْعَبْدَ - حَيَاتَك - فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِي، وَإِذَا مِتّ أَنَا فَهِيَ لِوَرَثَتِي: فَهَذَا كُلُّهُ تَمْلِيكٌ صَحِيحٌ فِي الْحَالِ، وَشَرْطُ الرُّجُوعِ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْوَرَثَةِ بَاطِلٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: هِيَ هِبَةٌ لَك، وَلِعَقِبِك بَعْدَك؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْن بِأَوَّلِ كَلَامِهِ، وَذِكْرُ الْعَقِبِ لَغْوٌ وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ عَقِبَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ قَالَ: أَسْكَنْتُك دَارِي هَذِهِ - حَيَاتَك - وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك: فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْإِسْكَانِ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ - دُونَ الْعَيْنِ -.
وَقَوْلُهُ: لِعَقَبَتِك بَعْدَك، عَطْفٌ، وَالْعَطْفُ: لِلِاشْتِرَاكِ، فَمَعْنَاهُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute