للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سُكْنَاهَا لِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك؛ فَهِيَ هِبَةٌ لَهُ، وَذِكْرُ الْعَقِبِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: هِيَ لَك تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهَا مِنْهُ، وَبَعْدَ مَا هَلَكَ عَنْهَا مِنْهُ لَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ إيجَابِهَا لِغَيْرِهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: " وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك " لَغْوٌ - بِخِلَافِ الْأَوَّلِ - فَإِنَّ بَعْدَ إيجَابِ الْمَنْفَعَةِ لَهُ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ لِغَيْرِهِ، فَكَانَ كَلَامُهُ عَارِيَّةً فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ عَقِبِهِ بَعْدَهُ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا - مَتَى شَاءَ -.

قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ: فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهِ فِي الْمَوْهُوبِ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ - كَمَا قُلْنَا -.

قَالَ: رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا مَرِيضًا بِهِ جُرْحٌ، فَدَاوَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ؛ فَبَرَأَ: لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ؛ لِلزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَصَمَّ أَوْ أَعْمَى، فَسَمِعَ وَأَبْصَرَ؛ لِأَنَّهُ زَوَالٌ لِلْعَيْنِ فَزَوَالُهُ يَكُونُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْعَيْنِ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَمَا لَوْ كَانَ مَهْرٌ، وَلَمْ يُسَمَّ.

قَالَ: مَرِيضٌ وَهَبَ عَبْدَهُ لِرَجُلٍ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَتَبِعَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَأَعْتَقَهُ، أَوْ بَاعَهُ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي فِيهِ بِشَيْءٍ فَعِتْقهُ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَحُكْم بِصِحَّتِهِ فِي الْحَالِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُطْلَقَة لِلتَّصَرُّفِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - وَكَوْنُ الْمَانِعِ مُحْتَمَلًا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ: مَرَض الْمَوْتِ وَهُوَ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ، وَلَا يُدْرَى أَنَّ مَرَضَهُ هَذَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ أَمْ لَا، وَالْمَوْهُوبُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ فَحَكَمَ بِنُفُوذِ تَصَرُّفه لِهَذَا، وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، وَالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ فُكَّتْ بِمَوْتِهِ فِي الْبَعْضِ، أَوْ فِي الْكُلِّ، وَفَسَادُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ عِنْدَ الْقَبْضِ، فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى - إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ؛ لِاسْتِغْرَاقِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِالْعَيْنِ، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مِلْكُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ إذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَةَ الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرَقٌ لِتَرِكَتِهِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الْعَيْنِ، لِرَدِّ الْوَصِيَّة، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِإِخْرَاجِهِ إيَّاهُ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَكِنْ لَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ، فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي قَدْرِ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ، فَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُعْسِرًا، وَقَدْ كَانَ أَعْتَقَ الْعَبْدَ، فَلَا سَبِيلَ لِغُرَمَاءِ الْوَاهِبِ وَلَا لِوَرَثَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَزِمَهُ بِاكْتِسَابِ سَبَبِهِ - وَهُوَ الْإِتْلَافُ - وَدِينُ الْحُرِّ الصَّحِيحِ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمِلْكِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَة بَعْدَ الْعِتْقِ فِي دَيْنٍ كَانَ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>