الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يَنْعَدِمُ الْقَبْضُ، وَتَرْكُ الْقَبْضِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لَا يَضُرُّ، أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ فَيَنْعَدِمُ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي الْقَلْبِ وُجُوبُ الْمِلْكِ؛ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَبِيعٌ فَبِاسْتِحْقَاقِهِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِخِلَافِ النُّقُودِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ الْعَقْدَ أَمَّا إذَا أَجَازَهُ جَازَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: إنْ قَالَ الْمُسْتَحِقُّ أُثْبِتُ مِلْكِي لِأُجِيزَ الْعَقْدَ فَلَهُ أَنْ يُجِيزَهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَاسْتِحْقَاقُهُ إبْطَالٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِمِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِسَبَبِ الْإِزَالَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْعَقْدَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَالنُّقُودُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَنَا، وَيَتَعَيَّنُ عِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ فَحَبَسَهَا وَأَعْطَى الْبَائِعُ مِثْلَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ عِنْدَنَا، وَلَوْ هَلَكَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ، أَوْ اُسْتُحِقَّتْ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَنَا، وَيَبْطُلُ عِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَيَصِحُّ بِهِ التَّعَيُّنُ كَمَا فِي السِّلَعِ، وَهَذَا بَدَلٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ كَالْمَبِيعِ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ النُّقُودَ تُمْلَكُ أَعْيَانُهَا، وَمُوجِبُ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ الْمِلْكُ فِيمَا يُمْلَكُ عَيْنُهُ مِنْ الْمَالِ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِمُوجِبِ الْعَقْدِ وَكَانَ هَذَا التَّعْيِينُ مُصَادِفًا مَحَلَّهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ حَتَّى إنَّ الْغَاصِبَ لَوْ أَرَادَ حَبْسَ الدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ، وَرَدَّ مِثْلِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ تَتَعَيَّنُ حَتَّى يَكُونَ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي عَيْنِهَا، وَفِي الصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي التَّعْيِينِ فَائِدَةً لَهُمَا أَمَّا لِلْبَائِعِ فَلِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْعَيْنَ كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَاءِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي إبْطَالَ حَقِّهِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ فَيَرْغَبُ فِيهِ مَا لَا يَرْغَبُ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْمُشْتَرِي فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ آخَرَ إذَا هَلَكَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ، وَأَنْ تَكُونَ ذِمَّتُهُ خَالِيَةً عَنْ الدَّيْنِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ فِي الْوَكَالَةِ حَتَّى لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا شَيْئًا فَهَلَكَتْ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ، وَيَتَعَيَّنُ فِي النَّذْرِ أَيْضًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْبَيْعِ أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ بِعَيْنِهَا طَعَامًا، وَنَقَدَهَا لَا يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُهَا، وَلَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ لَحَلَّ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ ثُمَّ نَقَدَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ: إذَا قَالَ إنْ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ بِهَذَا الْأَلْفِ، وَبِهَذَا الْكُرِّ فِيهِمَا صَدَقَةٌ فَبَاعَهُ بِهِمَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُرِّ فَلَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ لَمَا لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ مُرْسَلَةٍ وَبِذَلِكَ الْكُرِّ
وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute