الْوُجُوهِ مَا أَمْكَنَ، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا قُلْنَا. وَالْعِرَاقِيُّونَ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، وَيَقُولُونَ حِلٌّ لَنَا دِمَاؤُهُمْ طِلْقٌ لَنَا أَمْوَالُهُمْ فَمَا عَدَا عُذْرَ الْأَمَانِ يَضْرِبُ سَبْعًا فِي ثَمَانِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ، وَالْغَيْظِ لِلْمُشْرِكَيْنِ، وَلِئَلَّا يَظُنُّوا بِنَا أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ لِطَمَعِ الْمَالِ.
وَأَمَّا التَّاجِرَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْنَهُمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْإِحْرَازِ بِالِاسْتِئْمَانِ إلَيْهِمْ، وَلِهَذَا يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ إذَا أَتْلَفَهُ، وَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ عَقْدٍ لَمْ يُبَاشِرَاهُ بَيْنَهُمَا مِنْ هِبَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَا، وَلَمْ يَخْرُجَا حَتَّى تَبَايَعَا بِالرِّبَا، كَرِهْتُهُ لَهُمَا، وَلَمْ أُرِدْهُ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَرُدُّهُ، وَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي التَّاجِرَيْنِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَقَطْ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْحَرْبِيِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ: مَالُ كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ عَنْ التَّمَلُّكِ بِالْأَخْذِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ ظَهَرُوا عَلَى الدَّارِ لَا يَمْلِكُونَ مَالَهُمَا بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ، وَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ أَحَدُهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: بِالْإِسْلَامِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ صَاحِبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْ، وَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ بِالْإِحْرَازِ، وَالْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَانِعٌ لِمَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقًّا لِلشَّرْعِ دُونَ مَنْ لَا يَعْتَقِدَهُ وَبِقُوَّةِ الدَّارِ يَمْنَعُ عَنْ مَالِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدُهُ؛ فَلِثُبُوتِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْآثِمِ قُلْنَا: يُكْرَهُ لَهُمَا هَذَا الصَّنِيعُ، وَلِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ قُلْنَا: لَا يُؤْمَرُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَمْلِكُ مَالَ صَاحِبِهِ بِالْأَخْذِ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُونَ مَالِ الَّذِي أَسْلَمَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا مَالَهُ بِيَدِهِ، وَيَدُهُ أَسْبَقُ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْغَانِمِينَ.
فَإِنْ دَخَلَ تُجَّارُ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، لَمْ أُجِزْ ذَلِكَ إلَّا مَا أُجِيزُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ وَلَا يَتَمَلَّكُهُ صَاحِبُهُ إلَّا بِجِهَةِ الْعَقْدِ، وَحُرْمَةُ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ، وَهُوَ مُسْتَثْنَى مِنْ الْعَهْدِ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى نَصَارَى نَجْرَانَ مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيَّنَهُ عَهْدٌ، وَكَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ إمَّا أَنْ تَدَعُوا الرِّبَا أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ» فَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْمَنْعِ، لَا يَكُونُ غَدْرًا بِالْأَمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute