هَذَا تَوْكِيلٌ بِالْحِفْظِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَحْفُوظٌ عِنْدَ كُلِّ مَالِكٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْمَالَ عِنْدَ ذِكْرِ التَّوْكِيلِ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْحِفْظُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْخُصُومَةِ، وَالْبَيْعُ وَتَقَاضِي الدَّيْنِ شَكٌّ بِلَا بَيِّنَةٍ وَإِنْ قَالَ: تَقَاضَ دَيْنِي؛ أَوْ أَرْسِلْهُ يَتَقَاضَاهُ أَوْ وَكِّلْهُ، فَهُوَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالتَّقَاضِي مُعَبِّرٌ عَنْ مُوَكِّلِهِ، وَلَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ عُهْدَةٌ، كَالرَّسُولِ وَلَهُ أَنْ يَتَقَاضَاهُ، وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يُوَكِّلَ بِقَبْضِهِ أَحَدًا مِنْ غَيْرِ عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِيهِ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِهِ وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ عَبْدَهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ أَجِيرَهُ الَّذِي هُوَ فِي عِيَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ دَفَعَ إلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا يَقْبِضُ، كَالْمُودَعِ فِي الْوَدِيعَةِ.
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِتَقَاضِي دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَسَمَّى لَهُ مَا عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا يَحْدُثُ لَهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ التَّوْكِيلَ بِمَا سَمَّى لَهُ وَهُوَ تَقْيِيدُ مُقَيَّدٍ، فَقَدْ يَأْتَمِنُ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْ مَالِهِ دُونَ الْكَثِيرِ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِتَسْلِيمِ شُفْعَتِهِ لَهُ فَجَاءَ الْوَكِيلُ وَقَدْ غَرِقَ بِنَاءُ الدَّارِ أَوْ احْتَرَقَ نَخْلِ الْأَرْضِ فَأَخَذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّلُ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَسْتَطِيعُ رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بَعْدَ مَا احْتَرَقَ الْبِنَاءُ، إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِي الْأَخْذِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا إذْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا لِنَفْسِهِ بِالشُّفْعَةِ، وَبِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ إذَا اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَهُ حُرًّا أَوْ وَصِيًّا فِي الْخُصُومَةِ فِي حَيَاتِهِ وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ فَهَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ الْوَكَالَةِ
وَالْمُعْتَبَرُ الْمَعْنَى دُونَ الْعِبَارَةِ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا وَيُنْفِذَ الثَّمَنَ وَيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِالشُّفْعَةِ فَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِينَ بِالْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ حَضَرَا مَجْلِسَ الْقَاضِي لَمْ يَتَكَلَّمْ، إلَّا أَحَدُهُمَا، فَإِنَّهُمَا لَوْ تَكَلَّمَا جَمِيعًا لَمْ يَفْهَمْ الْقَاضِي كَلَامَهُمَا، وَلَا يَأْخُذُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ مَنْزِلَةَ الْوَكِيلِينَ بِالشِّرَاءِ وَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ عِنْدَ الْقَاضِي جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعْنًى؛ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ تَامٌّ فِي الْخُصُومَةِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِغَيْرِهِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَجَازَ لَهُ مَا صَنَعَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَالتَّوْكِيلُ مِنْ صُنْعِهِ فَإِنْ وَكَّلَ وَكِيلًا وَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ الثَّانِي أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَجَازَ صُنْعَ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُجِزْ صُنْعَ الْوَكِيلِ الثَّانِي، وَهَذَا اللَّفْظُ يُعْتَبَرُ فِي تَصْحِيحِ التَّوْكِيلِ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي تَنْفِيذِ إجَازَةِ الْأَوَّلِ مَا صَنَعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي عَلَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَرَاءَ إجَازَةِ مَا صَنَعَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لَا يُسَوِّي غَيْرَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute