للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَفِي هَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وَجَوَازِ كِرَاءِ الْإِبِلِ إلَى مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَسَافَةِ فِي الْإِعْلَامِ كَبَيَانِ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أُشْكِلَ عَلَى السَّائِلِ حَالَ حَجِّهِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ كَانَ لِتَعَاهُدِ إبِلِهِ وَاكْتِسَابِ الْكِرَاءِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ اكْتِسَابَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَأَزَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إشْكَالَهُ بِمَا ذَكَرَ لَهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَهَذَا بَيَانٌ لَهُ أَنَّ بِالذَّهَابِ لَا يَتَأَدَّى الْحَجُّ وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالرَّمْيِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا يَبْتَغِي عَرَضَ الدُّنْيَا وَهَذَا جَوَابٌ تَامٌّ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَهُ وُضُوحًا فَرَوَى الْحَدِيثَ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ دَلِيلٌ يُسْتَدْرَكُ بِالتَّأَمُّلِ وَقَدْ شَبَّهَ ذَلِكَ بِالسِّرَاجِ وَالْخَبَرُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِالشَّمْسِ وَكَمْ مِنْ عَيْنٍ لَا تُبْصِرُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ وَتُبْصِرُ إذَا بَزَغَ الضِّيَاءُ الْوَهَّاجُ

ثُمَّ فِيهِ دَلِيلُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْتَظِرُ نُزُولَ الْوَحْيِ فِي بَعْضِ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ أَخَّرَ جَوَابَ هَذَا السَّائِلِ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي الْحَجِّ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ التِّجَارَةِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَلَمَّا كَانَ إكْرَاءُ الْإِبِلِ فِي مَعْنَاهُ رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الْحَدِيثَ فِيهِ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا الرُّسْتَاقِيُّ إذَا دَخَلَ الْمِصْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِشِرَاءِ الدُّهْنِ وَاللَّحْمِ وَشَهِدَ الْجُمُعَةَ فَهُوَ فِي الثَّوَابِ، وَاَلَّذِي لَا شُغْلَ لَهُ سِوَى إقَامَةِ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُسْلِمِ إقَامَةُ الْعِبَادَةِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ يَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي ثَوَابِ الْعِبَادَةِ وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَتَى رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ: إنِّي أَجَّرْتُ نَفْسِي مِنْ قَوْمٍ وَحَطَطْتُ لَهُمْ مِنْ أَجْرِي أَفَيُجْزِينِي مِنْ حَجَّتِي؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَذَا مِنْ الدَّيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [البقرة: ١٩٨] الْآيَةَ وَإِنَّمَا أُشْكِلَ عَلَى هَذَا السَّائِلِ مَا أُشْكِلَ عَلَى الْأَوَّلِ وَكَأَنَّهُ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي اُسْتُؤْجِرَ بِدِينَارَيْنِ لِلْخُرُوجِ مَعَ الْمُجَاهِدِ «وَإِنَّمَا لَكَ دِينَارُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فَظَنَّ مِثْلَهُ فِي الْحَجِّ وَحَطَّ بَعْضَ الْأَجْرِ بِهِ لِيَرْتَفِعَ بِهِ نُقْصَانُ حَجِّهِ فَإِنَّ الْحَطَّ إحْسَانٌ وَانْتِدَابٌ إلَى مَا نُدِبَ فِي الشَّرْعِ وَمِثْلُهُ مَشْرُوعُ جَبْرِ النُّقْصَانِ الْفَرَائِضِ كَالنَّوَافِلِ فَأَزَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إشْكَالَهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي حَجِّهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفِّ عَنْ حَطِّ الْأَجْرِ، وَإِنْ كَانَ حَجُّهُ بِدُونِهِ تَمَامًا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لَا يَحْسُنُ، وَهُوَ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِخِلَافِ حَالِ مِنْ اُسْتُؤْجِرَ لِلْخُرُوجِ مَعَ الْمُجَاهِدِ؛ فَإِنَّهُ خَرَجَ لِيَخْدُمَ غَيْرَهُ لَا لِيُبَاشِرَ الْجِهَادَ وَهَذَا خَرَجَ لِيُبَاشِرَ أَعْمَالَ الْحَجِّ وَيَخْدُمَ فِي الطَّرِيقِ غَيْرَهُ فَكَانَ هَذَا تَبَعًا لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ نُقْصَانٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>