للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلَّا مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَاَلَّذِي لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ هُوَ الْحَرْقُ الْغَالِبُ، أَوْ الْغَرَقُ الْغَالِبُ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: إنْ غَرِقَتْ مِنْ مَدِّهِ، أَوْ مُعَالَجَتِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِفِعْلِهِ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ ضَامِنٌ؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ، وَإِنْ احْتَرَقَتْ مِنْ نَارٍ أَدْخَلَهَا السَّفِينَةَ لَجَاجَةٍ لَهُ مِنْ خَبْزٍ، أَوْ طَبْخٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ كَالْبَيْتِ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا فِي إدْخَالِ النَّارِ السَّفِينَةَ لِحَاجَتِهِ، وَإِذَا كَانَ التَّلَفُ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْهِ تَسَبُّبًا وَلَا مُبَاشَرَةً لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا

وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْمَلَّاحِ فِي الْمَاءِ خَاصَّةً، وَإِنْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ مِنْ مَدِّهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَقَ غَالِبٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَهُوَ كَالْحَرْقِ الْغَالِبِ وَالْغَارَةِ الْغَالِبَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: الِاحْتِرَازُ مُمْكِنٌ بِمَنْعِ السَّفِينَةِ عِنْدَ الْمَدِّ وَالْمُعَالَجَةُ مِنْ مَوْضِعِ الْغَرَقِ فَإِذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِعَمَلِهِ كَانَ ضَامِنًا وَعَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ بِصَبَّاغٍ فَقَالَ: إنِّي أَعْطَيْتُ هَذَا ثَوْبِي لِيَصْبُغَهُ فَاحْتَرَقَ بَيْتُهُ فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اضْمَنْ لَهُ ثَوْبَهُ، فَقَالَ الصَّبَّاغُ: كَيْفَ أَضْمَنُ لَهُ ثَوْبَهُ وَقَدْ احْتَرَقَ بَيْتِي فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: أَرَأَيْتَ لَوْ احْتَرَقَ بَيْتَهُ أَكُنْت تَدَعُ لَهُ أَجْرَكَ؟ وَكَانَ هَذَا الْحَرْقُ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَضْمِينُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهُ فَكَأَنَّهُ عَرَفَ إمْكَانَ التَّحَرُّزِ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ الثَّوْبِ مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بِإِمْكَانِ إطْفَاءِ النَّارِ وَلَكِنَّهُ تَهَاوَنَ فَلَمْ يَفْعَلْ؛ فَلِهَذَا قَالَ لَهُ: اضْمَنْ لَهُ ثَوْبَهُ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِ الصَّبَّاغُ وَقَالَ: كَيْفَ أَضْمَنُ لَهُ وَقَدْ احْتَرَقَ بَيْتِي؟ وَكَأَنَّهُ ادَّعَى بِهَذَا أَنَّ الْحَرْقَ كَانَ غَالِبًا وَلَمْ يُصَدِّقْهُ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِعِلْمِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ احْتَرَقَ بَيْتَهُ كُنْتَ تَدَعُ لَهُ أَجْرَكَ؟ وَمَعْنَى اسْتِدْلَالِهِ هَذَا أَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ عَلَيْكَ وَالْأَجْرَ لَكَ عَلَيْهِ فَكَمَا لَا يَسْقُطُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَك بِاحْتِرَاقِ بَيْتِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِاحْتِرَاقِ بَيْتِكَ وَلَوْ كَانَ هَذَا الصَّبَّاغُ فَقِيهًا لَبَيَّنَ الْفَرْقَ وَيَقُولُ لَهُ: أَيُّهَا الْقَاضِي قِيَاسُكَ فَاسِدٌ؛ فَالْأَجْرُ لِي فِي ذِمَّتِهِ وَبِاحْتِرَاقِ بَيْتِهِ لَا يَفُوتُ مَحَلُّ حَقِّي، وَحَقِّهِ فِي عَيْنِ الثَّوْبِ وَبِاحْتِرَاقِ بَيْتِي يَفُوتُ مَحَلُّ حَقِّهِ وَلَكِنْ لَمْ يَحْضُرْهُ هَذَا الْفَرْقُ أَوْ احْتَشَمَهُ فَلَمْ يُعَارِضْهُ وَالْتَزَمَ حُكْمَهُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ احْتَرَقَ بَيْتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَمَلِهِ فَلَا ضَامِنَ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى أَجِيرِ الْوَاحِدِ إلَّا إذَا خَالَفَ مَا أَمَرَ بِهِ وَذُكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُضَمِّنُ الْخَيَّاطَ وَالْقَصَّارَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الصُّنَّاعِ احْتِيَاطًا لِلنَّاسِ أَنْ لَا يُضَيِّعُوا مَتَاعَهُمْ

وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَكُنْ يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ فِي الرِّوَايَةِ وَالصَّبَّاغَ وَالصَّائِغَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ عَنْ بِكِيرِ بْن الْأَشَجِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>