فَالْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ مَبِيعٌ عَيْنٌ وَلِهَذَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَمَلُ مَشْرُوطٌ فِيهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَمَلِ اخْتَصَّ بِاسْمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِمَعْنًى يَقْتَضِيهِ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَالِاسْتِصْنَاعُ اسْتِفْعَالٌ مِنْ الصُّنْعِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَمَلَ مَشْرُوطٌ فِيهِ، ثُمَّ أَحْكَامُ مَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ الِاسْتِصْنَاعِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْبُيُوعِ فَبِذَلِكَ بَدَأَ الْبَابَ هُنَا وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا أَسْلَمَ حَدِيدًا إلَى حَدَّادٍ لِيَصْنَعَهُ إنَاءً مُسَمًّى بِأَجْرٍ مُسَمًّى؛ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ إذَا كَانَ مِثْلَ مَا سَمَّى؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلْفَسْخِ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِهِ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى هُنَا فَإِنَّ بَعْدَ اتِّصَالِ عَمَلِهِ بِالْحَدِيدِ لَا وَجْهَ لِفَسْخِ الْعَقْدِ فِيهِ، فَأَمَّا فِي الِاسْتِصْنَاعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْعَيْنُ وَفَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّادَ هُنَا يَلْتَزِمُ الْعَمَلَ بِالْعَقْدِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَثْبُتُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ فِيمَا يَكُونُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ، فَأَمَّا فِي الِاسْتِصْنَاعِ الْمَقْصُودُ هُوَ الْعَيْنُ وَالْعَقْدُ يَرِدُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ صَارَ دَيْنًا بِذِكْرِ الْأَجَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَفْسَدَهُ الْحَدَّادُ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ حَدِيدًا مِثْلَ حَدِيدِهِ وَيَصِيرُ الْإِنَاءُ لِلْعَامِلِ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ أَفْسَدَ عَمَلَهُ، وَمُوَافِقٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ إقَامَةُ أَصْلِ الْعَمَلِ
وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْخِلَافِ وَجَعَلَهُ كَالْغَاصِبِ وَمَنْ غَصَبَ حَدِيدًا وَضَرَبَهُ إنَاءً فَهُوَ ضَامِنٌ حَدِيدًا مِثْلَهُ وَالْإِنَاءُ لَهُ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ الْوِفَاقِ وَرَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرَ الصِّفَةِ فَأَخَذَ الْإِنَاءَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ كَالْمُشْتَرِي، وَإِذَا وَجَدَ بِالْبَيْعِ عَيْبًا إلَّا أَنَّهُ يُعْطِيهِ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ صَالِحٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ وَلَكِنَّ قَدْرَ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ سُلِّمَ لَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى وَلِأَنَّهُ؛ لَمَّا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ صَالِحٍ يَكُونُ أَرْضَى بِهِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلٍ فَاسِدٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي؛ فَإِنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ دُونَ الْأَوْصَافِ، وَالْفَائِتُ بِالْعَيْبِ وَصْفٌ وَهُنَا الْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ وَبِالْإِفْسَادِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الْعَمَلُ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُسَلِّمُهُ إلَى عَامِلٍ لِيَصْنَعَ لَهُ شَيْئًا مُسَمًّى، كَالْجِلْدِ يُسَلِّمُهُ إلَى الْإِسْكَافِ لِيَصْنَعَهُ خُفَّيْنِ وَالْغَزْلِ يُسَلِّمُهُ إلَى حَائِكٍ لِيَنْسِجَهُ، فَلَوْ اسْتَصْنَعَ عِنْدَ حَائِكٍ ثَوْبًا مَوْصُوفَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالرِّفْعَةِ وَالْجِنْسِ يَنْسِجُهُ مِنْ غَزْلِ الْحَائِكِ كَانَ هَذَا فِي الْقِيَاسِ مِثْلَ الْخُفِّ وَغَيْرِهِ وَيُرِيدُ بِهِ قِيَاسَ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَسْأَلَةِ الْخُفِّ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَعْمَلُ بِهِ النَّاسُ
وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا الِاسْتِصْنَاعَ فِيمَا فِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute