بِمَهْرٍ مُنَجَّمٍ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا فِي الْكِرَاءِ إلَى مَكَّةَ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِنْ الْكِرَاءِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ، وَوُجُوبُ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا لَا يَلْزَمُهُ إيفَاءُ الْأَجْرِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كُلَّمَا سَارَ مَسِيرًا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَسَبِهِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا وَإِنَّمَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ عِنْدَ تَسْلِيمِ مَا يُقَابِلُهُ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنَّهُ كُلَّمَا سَارَ شَيْئًا وَلَوْ خَطْوَةً يَجِبُ تَسْلِيمُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْأَجْرِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُعْرَفُ فَلَوْ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ لَمْ نَتَفَرَّغْ إلَى شُغْلٍ آخَرَ بَلْ يُسَلِّمُ الْأَجْرَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ بِقَدْرِ مَا يَسْتَوْفِي مِنْ الْعَمَلِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: كُلَّمَا سَارَ مَرْحَلَةً أَوْفَى حِصَّتَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إذَا سَارَ ثُلُثَ الطَّرِيقِ طَالَبَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الطَّرِيقِ قَدْ يَكْتَرِي الْمَرْءُ فِيهِ دَابَّةً، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى أُخْرَى
وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّل مَا لَمْ تَنْتَهِ الْمُدَّةُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ إذَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مَا لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ يَجِبُ إيفَاءُ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ فَالْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَدَّرَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، وَإِنْ عَجَّلَ الْأَجْرَ كُلَّهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْفَضْلِ وَأَوْفَى قَبْلَ وُجُوبِ الْإِيفَاءِ فَهُوَ كَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إذَا عَجَّلَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا عَجَّلَ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ حَالَ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَإِنْ أَشَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْأَجْرَ حَتَّى يَرْجِعَ، أَوْ حَتَّى تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ فَهُوَ جَائِزٌ أَمَّا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فَهَذَا شَرْطٌ يُوَافِقُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ هَذَا اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِي الْأَجْرِ وَالْأَجْرُ قِيَاسُ الثَّمَنِ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِيهِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَلَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِيهِ إذَا كَانَ عَيْنًا
وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيع الْأَجْرِ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصَحَّ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا لَمْ يَصِحُّ حَتَّى يَقْبَلَ الْآخَرُ فَإِنْ قَبِلَ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ مِنْ الْأَجْرِ كَالْمَبِيعِ، وَالْمُشْتَرِي إذَا وَهَبَ الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ مَا لَمْ يَقْبَلْ فَإِذَا قَبِلَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ، فَأَمَّا إذَا كَانَ دَيْنًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالْعَقْدِ مُؤَجَّلًا وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَيْنًا كَانَ، أَوْ دَيْنًا وَالْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يَصِحُّ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute