للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ أَسِّ بَيْنَ النَّاسِ مَعْنَاهُ سَوِّ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَالتَّأَسِّي فِي اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ قَالَ قَائِلُهُمْ:

فَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْت نَفْسِي

وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أُعَزِّ النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتَّأَسِّي

وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخُصُومِ إذَا تَقَدَّمُوا إلَيْهِ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ فَاسْمُ النَّاسِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَإِنَّمَا يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِيمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ فِي وَجْهِك وَمَجْلِسِك وَعَدْلِك يَعْنِي فِي النَّظَرِ إلَى الْخَصْمَيْنِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا فِي جُلُوسِهِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى لَا يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَفِي عَدْلِهِ بَيْنَهُمَا وَبِالْعَدْلِ أُمِرَ وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي مَا تَرَكْت الْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَاغْفِرْهَا لِي قِيلَ وَمَا تِلْكَ الْحَادِثَةُ قَالَ ادَّعَى نَصْرَانِيٌّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ دَعْوَى فَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ آمُرَ الْخَلِيفَةَ بِالْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسَهُ وَالْمُحَابَاةِ مَعَ خَصْمِهِ، وَلَكِنِّي رَفَعْت النَّصْرَانِيَّ إلَى جَانِبِ الْبِسَاطِ بِقَدْرِ مَا أَمْكَنَنِي، ثُمَّ سَمِعْت الْخُصُومَةَ قَبْلَ أَنْ أُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ فَهَذَا كَانَ جَوْرِي لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَيْهِ فِي الْعِنَايَةِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ لَا يَطْمَعُ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك وَلَا يَخَافُ ضَعِيفٌ مِنْ جَوْرِك وَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور: ٥٠].

فَإِذَا قَدَّمَ الشَّرِيفَ طَمِعَ فِي ظُلْمِهِ وَانْكَسَرَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ قَلْبُ خَصْمِهِ الضَّعِيفِ فَيَخَافُ الْجَوْرَ، وَرُبَّمَا يَتَمَكَّنُ لِلشَّرِيفِ عِنْدَ هَذَا التَّقْدِيمِ مِنْ التَّلَبُّسِ وَيَعْجَزُ الضَّعِيفُ عَنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْقَاضِي هُوَ الْمُسَبِّبُ لِذَلِكَ بِإِقْبَالِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَتَرْكِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَصِيرُ بِهِ مُتَّهَمًا بِالْمَيْلِ أَيْضًا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ (قَالَ) «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُدَّ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ عَلَى مَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ «أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لِي اخْتِصَارًا»، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فَوَائِدَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الدَّعْوَى.

(قَالَ) «وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا»، وَهَذَا أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِدُعَاءِ الْخَصْمَيْنِ إلَى الصُّلْحِ قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصُّلْحَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: ١٢٨]، وَذَلِكَ دَلِيلُ النِّهَايَةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي إبْطَالِ الصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ (قَالَ) هُوَ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ مُبْطِلًا فَأَخَذَ الْمَالَ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ وَالصُّلْحُ يُحِلُّ لَهُ ذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>