للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فَالصُّلْحُ يَكُونُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ عَادَةً وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ كَانَ أَخَذَهُ حَلَالًا قَبْلَ الصُّلْحِ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْخَصْمِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ أُحِلَّ لَهُ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ تَحْلِيلُ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ أَوْ تَحْرِيمُ مَا هُوَ حَلَالُ الْعَيْنِ بِأَنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ فِي الْخُصُومَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ صَالَحَ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الْأُخْرَى، أَوْ صَالَحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ يُحَرِّمَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهَذَا هُوَ الصُّلْحُ الَّذِي حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا.

(قَالَ) وَلَا يَمْنَعُك قَضَاءٌ قَضَيْت بِالْأَمْسِ رَاجَعْت فِيهِ نَفْسَك وَهُدِيَتْ لِرُشْدِك أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي الْخَطَأُ فِي قَضَائِهِ بِأَنْ خَالَفَ قَضَاؤُهُ النَّصَّ أَوْ الْإِجْمَاعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُضَهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ، الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ - كِدْت أَنْ أَمْضِيَ فِي صَلَاتِي اسْتِحْيَاءً مِنْكُمْ، ثُمَّ قُلْتُ لَأَنْ أُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ أَنْ أُرَاقِبَكُمْ فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُرَاقِبْ اللَّهَ تَعَالَى، وَهَذَا لَيْسَ فِي الْقَاضِي خَاصَّةً بَلْ هُوَ فِي كُلِّ مَنْ يُبَيِّنُ لِغَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ الْوَاعِظُ وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ زَلَّ فَلْيُظْهِرْ رُجُوعَهُ عَنْ ذَلِكَ فَزَلَّةُ الْعَالِمِ سَبَبٌ لِفِتْنَةِ النَّاسِ كَمَا قِيلَ إنْ زَلَّ الْعَالِمُ زَلَّ بِزَلَّتِهِ الْعَالَمُ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْقَاضِي أَوْجَبُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُلْزِمٌ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قَدِيمٌ يَعْنِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنْكَتِمُ زَلَّةُ مَنْ زَلَّ بَلْ يَظْهَرُ لَا مَحَالَةَ. فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ.

ثُمَّ (قَالَ) الْفَهْمَ مِمَّا يَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِك، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ هَذَا اللَّفْظِ، وَفِي تَكْرَارِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَصْرِفَ الْعِنَايَةَ إلَى ذَلِكَ خُصُوصًا إذَا تَمَكَّنَ الِاسْتِيفَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِالتَّثَبُّتِ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُجَازَفَةِ خُصُوصًا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْك فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ مُخْتَارًا إلَّا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِد أَنْ يَكُونَ قَدْ حَوَى عِلْمَ الْكِتَابِ وَوُجُوهَ مَعَانِيهِ وَعِلْمَ السُّنَّةِ بِطُرُقِهَا وَمُتُونِهَا وَوُجُوهِ مَعَانِيهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي الْقِيَاسِ عَالِمًا بِعُرْفِ النَّاسِ وَمَعَ هَذَا قَدْ اُبْتُلِيَ بِحَادِثَةٍ لَا يَجِدُ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ذِكْرًا فَالنُّصُوصُ مَعْدُودَةٌ وَالْحَوَادِثُ مَمْدُودَةٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ التَّأَمُّلِ وَطَرِيقُ تَأَمُّلِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ

<<  <  ج: ص:  >  >>