عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَيَجِدَهَا بِأَدْنَى طَلَبٍ وَيَكْتُبُ التَّارِيخَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ مُنَازَعَةِ الْخُصُومِ وَالْأَصْلُ فِي كِتَابِ التَّارِيخِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبْ إلَى الْآفَاقِ قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُلُوكَ لَا يَقْبَلُونَ الْكِتَابَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَرَّخًا فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ وَشَاوَرَهُمْ فِي التَّارِيخِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا التَّارِيخَ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ وَبَقِيَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا قَالَ وَلِيُبَاشِرْ هُوَ بِنَفْسِهِ مَسَائِلَ الشُّهُودِ فَيَكْتُبُهَا، أَوْ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا فِي السِّرِّ إلَى أَهْلِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ وَالْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ فَيَبْعَثُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مَعَ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثِقَةٌ وَلَا يَطَّلِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَبْعَثُ بِهِ مَعَ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ يَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يَدَعُ فِي بَابِهَا أَقْصَى مَا فِي وُسْعِهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ.
وَقَدْ كَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَانِيَةً، ثُمَّ أَحْدَثَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَزْكِيَةَ السِّرِّ فَقِيلَ لَهُ أَحْدَثْت يَا أَبَا أُمَيَّةَ فَقَالَ أَحْدَثْتُمْ فَأَحْدَثْنَا فَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ وَتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَيَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي السِّرِّ، ثُمَّ يَحْضُرُ الشُّهُودُ وَالْمُزَكَّوْنَ لِيُزَكُّوهُمْ عَلَانِيَةً فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَكَّيْنَاهُمْ وَهُوَ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ غَيْرَ أَنَّ الْقُضَاةَ تَرَكُوا بَعْدَ ذَلِكَ تَزْكِيَةَ الْعَلَانِيَةِ وَاكْتَفَوْا بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ إبْقَاءً لِلسِّتْرِ عَلَى النَّاسِ وَتَحَرُّزًا عَنْ الْغَيْبَةِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُزَكِّينَ وَبَعْضِ الشُّهُودِ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إذَا مَيَّزُوا الْمَجْرُوحَ؛ فَلِهَذَا يُكْتَفَى بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ فِي زَمَانِنَا، وَإِنَّمَا لَا يُطْلِعُ وَاحِدًا مِنْ الرَّسُولَيْنِ عَلَى مَا يَبْعَثُ بِهِ مَعَ صَاحِبِهِ كَيْ لَا يَتَوَاضَعَا بَيْنَهُمَا عَلَى شَيْءٍ
وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُعَرِّفَ لَهُ صَاحِبَ مَسْأَلَةٍ فَلْيَفْعَلْ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا فَيَرْجِعُ إلَيْهِ بَعْضُ الْخُصُومِ فَيَخْدَعُهُ بِالرِّشْوَةِ أَوْ تُخَوِّفُهُ بَعْضُ الشُّهُودِ فَيُزْكِي الْمَجْرُوحَ لِذَلِكَ وَيُلْبِسُ عَلَى الْقَاضِي فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُعَرِّفَ لَهُ صَاحِبَ مَسْأَلَةٍ، وَلَكِنْ فِي زَمَانِنَا اتَّخَذُوا التَّزْكِيَةَ عَمَلًا فَيَشْتَهِرُ الْمُزَكِّي لِذَلِكَ لَا مَحَالَةَ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُدُولِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ مِمَّنْ يَقِفُ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَلَا يَعْرِفُهُ الْخُصُومُ. وَإِذَا أَتَاهُ تَزْكِيَةُ رَجُلٍ مِنْ ثِقَةٍ وَأَتَاهُ مِنْ ثِقَةٍ آخَرَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فَإِنَّ النَّافِيَ مُعَارِضٌ لِلْمُثْبِتِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ رَجُلَانِ عَلَى التَّزْكِيَةِ عَمِلَ بِقَوْلِهِمَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي خَرَجَ؛ لِأَنَّ الْمَثْنَى حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَحْدِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ رَهْطٌ عَلَى التَّزْكِيَةِ وَرَجُلَانِ عَدْلَانِ عَلَى الْجَرْحِ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ زَكُّوا اعْتَمَدُوا ظَاهِرَ الْحَالِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ مَا عَرَفَهُ اللَّذَانِ جَرَحَا مِنْ الْعَارِضِ الْمُوجِبِ لِلْجَرْحِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فَإِنَّ خَبَرَ الْمَثْنَى حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ
(قَالَ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الشَّاهِدَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَحِلْيَتَهُ وَمَنْزِلَهُ فِي دَارِ نَفْسِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute