فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} [الحجرات: ٦] وَالْأَمْرُ بِالتَّوَقُّفِ يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ لَا يَظْهَرُ فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ اعْتِقَادِهِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَاعْتِبَارَ تَعَاطِيهِ يَدُلُّ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي شَهَادَتِهِ فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَنْزَجِرْ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورِ دِينِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ حُرْمَتِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ مَعَ اعْتِقَادِهِ حُرْمَتَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِ فَلِوَجَاهَتِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْ اسْتِئْجَارِهِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَلِمُرُوءَتِهِ يَمْتَنِعُ مِنْ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الْعَمَلِ بِهَا لِإِكْرَامِ الشُّهُودِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْحُقُوقَ بِهِمْ»، وَفِي حَقِّ الْفَاسِقِ أَمْرٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَقِيت الْفَاسِقَ فَأَلْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ وَمَنْ يَكُونُ مُعْلِنًا لِلْفِسْقِ فَلَا مُرُوءَةَ لَهُ شَرْعًا؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا شَهَادَةُ آكِلِ الرِّبَا الْمَشْهُورِ بِذَلِكَ وَالْمَعْرُوفِ بِهِ الْمُقِيمِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فَاسِقٌ مُحَارِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: ٢٧٩]، وَلَكِنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِهِ مُقِيمًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ كُلَّهَا رِبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥] وَالْإِنْسَانُ فِي الْعَادَةِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ فِي جَمِيعِ مُعَامَلَاتِهِ فَقَدْ لَا يَهْتَدِي إلَى بَعْضِ ذَلِكَ؛ فَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بِأَكْلِ الرِّبَا مُصِرًّا عَلَيْهِ وَلَا شَهَادَةُ مُدْمِنِ الْخَمْرِ وَلَا مُدْمِنِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْكَبِيرَةِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَى ذَلِكَ.
وَذَلِكَ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الْإِدْمَانَ لِيَكُونَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنْهُ فَإِنَّ مَنْ يُتَّهَمُ بِالشُّرْبِ، وَلَكِنْ لَا يُظْهِرُ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ إذَا كَانَ يُظْهِرُ ذَلِكَ أَوْ يَخْرُجُ سَكْرَانَ يَسْخَرُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ فَلَا مُرُوءَةَ لِمِثْلِهِ وَلَا يُبَالِي مِنْ الْكَذِبِ عَادَةً وَلَا شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ مُخَنَّثًا فِي الرَّدِيِّ مِنْ أَفْعَالِهِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي كَلَامِهِ لِينٌ، وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ الرَّدِيَّةِ فَهَذَا عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ «هبت الْمُخَنَّثَ كَانَ يَدْخُلُ بُيُوتَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَضِيَ عَنْهُنَّ حَتَّى سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ كَلِمَةً شَنِيعَةً أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ» وَلَا شَهَادَةُ مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ يُطِيرُهُنَّ لِشِدَّةِ غَفْلَتِهِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مَعَ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ، وَأَنَّهُ يَقِلُّ نَظَرُهُ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، ثُمَّ هُوَ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ لَعِبٍ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أَنَا مِنْ دُرٍّ وَلَا الدُّرُّ مِنِّي» وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْعَوْرَاتِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ فِسْقٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ يُمْسِكُ الْحَمَامَ فِي بَيْتِهِ يَسْتَأْنِسُ بِهَا وَلَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute