للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُطَيِّرُهَا عَادَةً فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْحَمَامِ فِي الْبُيُوتِ مُبَاحٌ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ بُرُوجَ الْحَمَامَاتِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَلَا شَهَادَةُ صَاحِبِ الْغِنَاءِ الَّذِي يُخَادِنُ عَلَيْهِ وَيَجْمَعُهُمْ وَالنَّائِحَةُ؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ فِسْقٍ وَيُسْتَخَفُّ بِهِ عِنْدَ الصُّلَحَاءِ مِنْ النَّاسِ وَلَا يُمْتَنَعُ مِنْ الْمُحَازَقَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.

وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ إذَا تَابُوا فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ أَقْطَعَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَ أَتُجِيزُ شَهَادَتِي فَقَالَ نَعَمْ وَأَرَاك لِذَلِكَ أَهْلًا وَكَانَ أَقْطَعَ فِي سَرِقَةٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي شَهَادَتِهِ كَانَ لِفِسْقِهِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ هُنَاكَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ فَلَوْ جَعَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ هُنَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي مَقَادِيرِ الْحُدُودِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِالْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ تَتَحَقَّقُ جَرِيمَتُهُ وَجَرِيمَةُ هَؤُلَاءِ تَتَحَقَّقُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَإِقَامَةُ الْحَدِّ فِي حَقِّهِمْ تَكُونُ تَطْهِيرًا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: ٣٩] الْآيَةُ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.»

وَإِذَا أَعْمَى الشَّاهِدُ، أَوْ خَرِسَ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ بَعْدَ مَا شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ هَذِهِ الْحَوَادِثِ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهَا. فَكَذَلِكَ اعْتِرَاضُهَا بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا بِحُجَّةٍ فَاعْتِرَاضُ هَذِهِ الْمَعَانِي قَبْلَ الْقَضَاءِ يُخْرِجُ شَهَادَتَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَإِنَّ اقْتِرَانَهُ بِالْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ إذَا شَهِدَ بَعْدَ مَوْتِ الْأُصُولِ يُقْبَلُ وَالْقَضَاءُ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ. فَكَذَلِكَ اعْتِرَاضُ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَتِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَهَادَةُ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ جَائِزَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ مَنْ يَكْفُرُ فِي هَوَاهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَكْفُرُ فِي هَوَاهُ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَقَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْفَاسِقِ وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادِ أَغْلَظُ مِنْ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ أَخْبَارَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي الدِّيَانَاتِ لَا يُقْبَلُ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ فَلَأَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ أَوْلَى، وَفِي الْكِتَابِ اسْتَدَلَّ بِمَا كَانَ مِنْ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا شَكَّ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَتْ جَائِزَةً

<<  <  ج: ص:  >  >>