(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ بَعْدَ مَا تَصَدَّقَ بِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ فَيَثْبُتَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِاللُّقَطَةِ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لَا مَحَالَةَ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مِلْكَهُ عَنْ هَذَا الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ، وَالْإِرْثُ عَنْهُ مُنْتَفٍ لِقُرْبَةٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَوَجَبَ تَقْيِيدُ تِلْكَ الْقُرْبَةِ عِنْدَ إقْرَارِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ صَدَقَةٌ لِلْمَسَاكِينِ بِزَكَاةٍ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ أَوْ عُشْرٍ أَوْ نَذْرٍ وَجَبَ تَقَيُّدُهُ مِنْ الثُّلُثِ
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ فِي اللُّقَطَةِ التَّصَدُّقُ بِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ اتِّصَالِهَا إلَى مَالِكِهَا، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَالٍ فِي يَدِهِ لِغَائِبٍ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ وِلَايَةً فِي التَّصَدُّقِ بِهَا فِي الْمُلْتَقَطِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَمَّا لَزِمَهُ عَنْ عُهْدَةِ الْحِفْظِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَعْمُولٌ بِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَاجَةِ خُرُوجِهِ عَمَّا لَزِمَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّصَدُّقِ بِهَا فَصَارَ إقْرَارُهُ كَالْأَمْرِ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهِ دَلَالَةً وَمَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِمْ أَوْ يَتَصَدَّقُوا بِهِ مِنْ ثُلُثِهِ يُقَرِّرُهُ أَنَّهُمْ لَوْ صَدَّقُوهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهَا، وَفِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ الْمَرِيضُ مُسْتَغْنٍ عَنْ تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ فِيمَا هُوَ مُوجِبٌ تَصَرُّفَهُ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ تَصْدِيقِهِمْ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ يَجِبُ التَّصْدِيقُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.
وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ اسْتَوَتْ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي مَهْرِهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ دَيْنِهَا بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْأَصْلِ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ مَشْرُوعٌ لِلْحَاجَةِ وَبِمَرَضِهِ تَزْدَادُ حَاجَتُهُ إلَى مَا يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الْتِزَامِ الدَّيْنِ بِمُبَاشَرَةِ مَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ كَاسْتِئْجَارِ الْأَطِبَّاءِ وَشِرَاءِ الْأَدْوِيَةِ، ثُمَّ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ بِالتَّسْمِيَةِ بَلْ إنَّمَا يَجِبُ شَرْعًا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ فَلَا يَكُونُ الْمَرِيضُ بِالتَّسْمِيَةِ قَاصِدًا إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ فَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ، وَكَانَتْ مُزَاحِمَةُ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمَةً عَلَى مَا أَقَرَّ مَا بِهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لِقُوَّةِ سَبَبِ حَقِّهَا، وَلَوْ أَوْفَاهَا الْمَهْرَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا مَا قَبَضَتْ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهَا بِقَضَاءِ دَيْنِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَمْلِكُ تَخْصِيصَ بَعْضِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَهْرَ بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَكَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ إبْطَالًا لَحَقِّهِمْ بِإِيثَارِهَا بِقَضَاءِ دَيْنِهَا بِخِلَافِ بَدَلِ الْمُسْتَقِرِّ أَوْ الْمُسْتَقْرَضِ؛ لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَصَرُّفِهِ إبْطَالُ حَقِّهِ عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلِهَذَا كَانَ صَحِيحًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute