فَإِنَّ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فَيَتَحَاصَّانِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْعَدَمَ الْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ.
وَلَوْ كَانَ أَبُوهُ تَرَكَ عَبْدًا، فَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الْعَبْدُ قَدْ أَعْتَقَنِي أَبُوكَ، فَقَالَ صَدَقْتُمَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الدَّيْنُ أَوْلَى، وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي عِتْقِهِ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ عِنْدَ إقْرَارِ الْوَارِثِ كَنُفُوذِهِ لَوْ بَاشَرَهُ الْأَبُ فِي مَرَضِهِ فَيَكُونُ مُؤَخَّرًا عَنْ الدَّيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَعْتِقُ الْعَبْدُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ تَرِكَتِهِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ وَدِيعَةً فِي يَدِ أَبِيهِ بِعَيْنِهَا وَادَّعَى الْآخَرُ دَيْنًا فَصَدَّقَهُمَا الْوَارِثُ وَهُنَاكَ عِنْدَهُمَا مُدَّعِي الْعَيْنِ أَوْلَى فَكَذَلِكَ هُنَا الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ مُدَّعِي الْعَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُنَاكَ يَتَحَاصَّانِ وَصَارَتْ دَعْوَى الْعَيْنِ كَدَعْوَى الدَّيْنِ حِينَ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِهِمَا مَعًا فَهُنَا أَيْضًا يَصِيرُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالتَّبَرُّعِ فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ عِنْدَهُ.
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ أَقَرَّ لِآخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ مَا صَارَ مُتْلِفًا شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ وَالدَّفْعُ حَصَلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ الثَّانِي خَمْسَمِائَةٍ بِإِقْرَارِهِ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْ التَّرِكَةِ فَإِنَّهُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ صَارَ مُتْلِفًا حَقَّ الثَّانِي فَيَضْمَنُ لَهُ نَصِيبَهُ.
وَلَوْ كَانَ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَالْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ لِلثَّانِي وَرُجُوعُهُ فِي إبْطَالِ اسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ، وَلَكِنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ، فَإِذَا دَفَعَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ صَارَ مُتْلِفًا جَمِيعَ الْأَلْفِ عَلَى الثَّانِي بِزَعْمِهِ فَيَضْمَنُ لَهُ مِثْلَهَا.
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِهَذَا لَا بَلْ لِهَذَا فَالثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَ الثُّلُثَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَحِينَئِذٍ يَغْرَمُ لِلثَّانِي مِثْلَهُ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدْفَعُ ثُلُثًا إلَى الْأَوَّلِ وَثُلُثًا إلَى الثَّانِي.
وَلَوْ كَانَ قَالَ أَوْصَى أَبِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الْمَالِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْوَسَطِ، وَعِنْدَنَا الثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْآخَرَيْنِ إذَا دَفَعَهُ بِقَضَاءٍ وَهَذَا قِيَاسُ مَا سَبَقَ.
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِوَارِثِهِ فَخَاصَمَهُ الْوَارِثُ فِي ذَلِكَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجَبَ لِلْمَالِ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْمُبْطِلُ لَهُ، وَهُوَ مَوْتُهُ مِنْ مَرَضِهِ مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمَعْلُومَ فَيَأْمُرُهُ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَيْهِ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ بَطَلَ إقْرَارُهُ حِينَئِذٍ فَيَأْمُرُ الْوَارِثَ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute