بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ إلَى أَنْ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ إلَى إنْسَانٍ؛ لِيَأْتِيَ لَهُ بِرُءُوسٍ مَشْوِيَّةٍ، فَجَعَلَ يَصِفُهَا لَهُ، فَعَجَزَ عَنْ عِلْمِهِ بِالصِّفَةِ، فَقَالَ لَهُ: اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ، وَاشْتَرَى الرُّءُوسَ، وَحَمَلَهَا إلَى عِيَالِهِ، وَعَادَ إلَى بِشْرٍ بَعْدَ مَا أَكَلَهَا مَعَ عِيَالِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ مَا قُلْت لَك عَنْهُ، فَقَالَ: قُلْت لِي اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ، وَقَدْ بَدَا لِي مَا فَعَلْتُ، فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ، وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ صِفَتَهَا» ثُمَّ الْوَكَالَةُ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ، وَالْجَهَالَةُ فِي الصِّفَةِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ، وَذَلِكَ عَفْوٌ فِي الْعُقُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوَسُّعِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا الرِّفْقُ بِالنَّاسِ، وَفِي اشْتِرَاطِ بَيَانِ الْوَصْفِ بَعْضُ الْحَرَجِ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ
؛ لِهَذَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً. أَوْ عَبْدًا
لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الذُّكُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسٌ، وَالْإِنَاثُ كَذَلِكَ؛ وَلَكِنْ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ: كَالْحَبَشِيِّ، وَالسِّنْدِيِّ، وَالْهِنْدِيِّ، وَالتُّرْكِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ النَّوْعَ وَلَمْ يُسَمِّ مِقْدَارَ الثَّمَنِ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْوَكِيلُ مِنْ تَحْصِيلِهِ، فَيَنْفَرِدُ الْآمِرُ بِمَا سَمَّى لَهُ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا مُوَلَّدًا، أَوْ حَبَشِيًّا، أَوْ سِنْدِيًّا جَازَ؛ لِأَنَّ النَّوْعَ صَارَ مَعْلُومًا بِالتَّسْمِيَةِ؛ وَإِنَّمَا بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْوَصْفِ، وَهِيَ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ ثَلَاثَةٌ: الْجُودَةُ، وَالْوَسَطُ، وَالرَّدَاءَةُ، وَهِيَ تَتَفَاوَتُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ الْوَكِيلُ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْآمِرِ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُسَمِّ النَّوْعَ وَسَمَّى الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ صَارَ النَّوْعُ مَعْلُومًا، فَإِنَّ مِقْدَارَ ثَمَنِ كُلِّ نَوْعٍ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ، فَيَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ رَقَبَةً، أَوْ مَمْلُوكًا، لَا تَجُوزُ لَهُ الْوَكَالَةُ، وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ لِتَمَكُّنِ الْجَهَالَةِ فِي الْجِنْسِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذُّكُورَ مَعَ الْإِنَاثِ مِنْ بَنِي آدَمَ. جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَنَافِعِ، فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ إلَّا بِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَإِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ وَسَمَّى جِنْسَهَا وَثَمَنَهَا فَاشْتَرَاهَا لَهُ عَوْرَاءَ، أَوْ عَمْيَاءَ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَوْ إحْدَاهُمَا؛ أَوْ مُقْعَدَةً، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا اشْتَرَاهَا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ فِي قَطْعَاءِ الْيَدِ وَالْعَوْرَاءِ، فَأَمَّا الْعَمْيَاءُ، وَالْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْمُقْعَدَةُ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ، وَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ، فَإِنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ وَالشِّرَاءَ، وَالْعَمْيَاءُ وَالْمُقْعَدَةُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ، فَأَمَّا الْعَوْرَاءُ فَمَعِيبَةٌ، وَشِرَاءُ الْمَعِيبِ مُتَعَارَفٌ تَوْضِيحُهُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute