أَنَّ الْعَمَى وَقَطْعَ الْيَدَيْنِ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ، وَذَلِكَ اسْتِهْلَاكُ حُكْمٍ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِالرَّقَبَةِ الْعَمْيَاءِ، فَأَمَّا الْعَوَرُ وَقَطْعُ إحْدَى الْيَدَيْنِ فَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّكْفِيرَ بِهِ يَصِحُّ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَنَى عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ، وَقَدْ سَمَّى لَهُ الْجَارِيَةَ مُطْلَقًا، وَاسْمُ الْجَارِيَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَمْيَاءِ، وَمَقْطُوعَةِ، الْيَدَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ التَّقَيُّدُ بِالْعُرْفِ، لِأَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ، فَقَدْ يَشْتَرِي الْمَرْءُ رَقَبَةً عَمْيَاءَ، تَرَحُّمًا عَلَيْهَا، لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَوْ قَصْدًا إلَى وَلَائِهَا، أَوْ إلَى وَلَاءِ أَوْلَادِهَا، بِخِلَافِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَإِنَّ دَلِيلَ التَّقْيِيدِ هُنَاكَ قَدْ قَامَ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا، وَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ بِالْعَمْيَاءِ وَمَقْطُوعَةِ الْيَدَيْنِ.
وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ، أَوْ عَبْدًا لِيُسَلِّمَهُ إلَى خَبَّازٍ، أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ، فَاشْتَرَى أَعْمَى أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِقِيَامِ دَلِيلِ التَّقْيِيدِ فِي لَفْظِهِ، وَهُوَ تَنْصِيصُهُ عَلَى عَمَلٍ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَى، وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: اشْتَرِ لِي جَارِيَةً أَطَؤُهَا، فَاشْتَرَى مَحْرَمًا مِنْ الْآمِرِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّقْيِيدِ فِي لَفْظِهِ مُخْتَصٌّ أَمْرِهِ بِجَارِيَةٍ، يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا.
قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَابَّةً، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ لَهُ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ اسْمٌ لِمَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ: كَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ لِلْجِنْسِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَرْتَفِعُ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ يُؤْخَذُ بِمَا سُمِّيَ مِنْ الثَّمَنِ.
وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي حِمَارًا، وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ صَارَ مَعْلُومًا بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِنْ بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْوَصْفِ، فَسَخَ الْوَكَالَةَ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَمِيرَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَصْلُحُ لِرُكُوبِ الْعُظَمَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا، قُلْنَا: هَذَا اخْتِلَافُ الْوَصْفِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَعْرِفَةِ حَالِ الْمُوَكِّلِ، حَتَّى قَالُوا بِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ حِمَارًا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَرْكَبُهُ مِثْلُهُ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ مَقْطُوعَ الذَّنَبِ، أَوْ الْأُذُنَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ الْفَالَيْرِيُّ بِذَلِكَ، وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَبِالتَّسْمِيَةِ لَا يَصِيرُ الْجِنْسُ مَعْلُومًا، وَإِنْ قَالَ: اشْتَرِ لِي ثَوْبًا هَرَوِيًّا جَازَ عَلَى الْآمِرِ مَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا بَقِيَتْ فِي الصِّفَةِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ، إذَا اشْتَرَاهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ شِرَائِهِ عَلَى الْآمِرِ، لِمَا بَيَّنَّا، وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْعَاقِدِ، فَصَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ سَمَّى ثَمَنًا فَزَادَ عَلَيْهِ شَيْئًا، لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا سَمَّى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute