وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا كَفَلَ بِهِ الثَّانِي بَرِئَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَصِيرُ مُعْرِضًا عَنْ كَفَالَتِهِ حِينَ اشْتَغَلَ بِأَخْذِ كَفِيلٍ آخَرَ وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْكَفِيلُ الثَّانِيَ بِقَصْدِ زِيَادَةِ التَّوَثُّقِ فَلَا يَصِيرُ مُبَرِّئًا لِلْكَفِيلِ الْأَوَّلِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَفَالَتَيْنِ؛ فَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِحْضَارُ وَلَا يَبْعُدَ أَنْ يَكُونَ إحْضَارُ شَيْءٍ وَاحِدٍ مُسْتَحَقًّا عَلَى شَخْصَيْنِ
وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَكَفَلَ آخَرُ بِنَفْسِ الْكَفِيلِ ثُمَّ مَاتَ الْأَوَّلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرِئَ مِنْ الْحُضُورِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلُ الْأَوَّلُ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ الثَّانِي فَيَبْرَأُ بِبَرَاءَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ مَاتَ الْأَوْسَطُ بَرِئَ الْأَخِيرُ لِأَنَّ الْوَسَطَ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْآخِرِ وَقَدْ بَرِئَ بِمَوْتِهِ وَإِنْ مَاتَ الْأَخِيرُ فَالْأَوْسَطُ عَلَى كَفَالَتِهِ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ عَلَى مَا هُوَ سُقُوطٌ مَحْضٌ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ كَمَا لَوْ بَرِئَ الْكَفِيلُ بِالْإِبْرَاءِ وَلَوْ دَفَعَ الْأَوَّلُ نَفْسَهُ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ الْكَفِيلَانِ لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَالطَّالِبُ غَيْرُ حَاضِرٍ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ هُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ الطَّالِبُ حَاضِرًا وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ يَقُولُ هُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى إذَا بَلَغَ الطَّالِبُ فِعْلَهُ جَازَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ غَلَطٌ فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّوَقُّفُ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى بَيَانِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي تَزَوَّجْت فُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَلَامُ الْوَاحِدِ شَطْرُ الْعَقْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ كَلَامَ الْوَاحِدِ كَالْعَقْدِ التَّامِّ حَتَّى يَتَوَقَّفَ عَلَى مَا وَرَاءِ الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ هُنَا لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَذَا التَّوَقُّفِ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ جَائِزٌ فِي مَسْأَلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامٌ مِنْ الْكَفِيلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ إلْزَامٌ عَلَى غَيْرِهِ وَالِالْتِزَامُ يَتِمُّ بِالْمُلْتَزِمِ وَحْدَهُ كَالْإِقْرَارِ وَهَذَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ لَا يَزْدَادُ بِالْكَفَالَةِ حَقُّ الطَّالِبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا: الْكَفَالَةُ تَبَرُّعٌ وَهُوَ تَبَرُّعٌ عَلَى الطَّالِبِ بِالِالْتِزَامِ لَهُ وَإِنْشَاءُ سَبَبِ التَّبَرُّعِ لَا يَتِمُّ بِالتَّبَرُّعِ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْمُتَبَرِّعُ عَلَيْهِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْحَقِّ بِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لَا يَتِمُّ بِالْإِيجَابِ بِدُونِ الْقَبُولِ وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ إيجَابِهِ قَائِمًا مَقَامَ قَبُولِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَبَقِيَ إيجَابُهُ شَطْرَ الْعَقْدِ وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute