فَقَوْلُهُ تَعَالَى {: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣]، وَهُوَ أَمْرٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى {: فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: ٢٨٢].
وَعَلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: ٢٨٢]، وَأَدْنَى مَا يَثْبُتُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الْجَوَازُ، وَالسُّنَّةُ: حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا لِبَيْتِهِ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ». وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُوُفِّيَ، وَدِرْعُهُ مَرْهُونٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِوَسْقٍ مِنْ شَعِيرٍ».
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رَهَنَ دِرْعَهُ لِيَهُودِيٍّ فَمَا وَجَدَ مَا يَفْتَكُّهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَجَاءَ الْيَهُودِيُّ فِي أَيَّامِ التَّعْزِيَةِ يُطَالِبُ بِحَقِّهِ لِيَغِيظَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ».
وَفِي هَذَا دَلِيلُ جَوَازِ الرَّهْنِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، مَا يَكُونُ مُعَدًّا لِلطَّاعَةِ، وَمَا لَا يَكُونُ مُعَدًّا لَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَإِنَّ دِرْعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُعَدًّا لِلْجِهَادِ بِهِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ رَهْنِ الْمُصْحَفِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الشِّيعَةُ: أَنَّ مَا يَكُونُ لِلطَّاعَةِ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ حَبْسِهِ عَنْ الطَّاعَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ رَهَنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ بِهَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ: أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي السَّفَرِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣]، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الشَّرْطَ حَقِيقَةً بَلْ ذِكْرُ مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ يَمِيلُونَ إلَى الرَّهْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إمْكَانِ التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ، وَالْغَالِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، وَالْمُعَامَلَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَالرَّهْنُ فِي الْحَضَرِ، وَالسَّفَرِ دَلِيلٌ: عَلَى جَوَازِهِ بِكُلِّ حَالٍ
ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فِي الرَّهْنِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ: أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ يَكُونُ مَضْمُونًا ثُمَّ بَيَانُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا رَهَنَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ سَقَطَ دَيْنُهُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ خَمْسَةً يَرْجِعُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِخَمْسَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَذْهَبُنَا أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَالرَّاهِنُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخَمْسَةٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَبِهِ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُمَا قَالَا: إنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ، وَمِنْ الدَّيْنِ فَإِذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ فَالْمُرْتَهِنُ فِي الْفَضْلِ أَمِينٌ، وَهَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُرْتَهِنَ فِي الْفَضْلِ أَمِينٌ.
وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ (رَحِمَهُمْ اللَّهُ) عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَعِنْدَنَا هُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute