وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا الْحَمْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَنَّهُ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فِي الْقِيَامَةِ لِيُعْرَفَ بِهِ مَا فَعَلَهُ، وَيَكُونَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْكَزُ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ تُعْرَفُ بِهِ غَدْرَتُهُ».
وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ لَا حَقِيقَةَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: ٤٨]، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: لَا تَمْنَعُوا الْمَاءَ مَخَافَةَ الْكَلَإِ» يُرِيدُ بِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ إذَا كَانَ لَهُ مَرْعًى حَوْلَ بِئْرِهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنْ بِئْرِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِظُهُورِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَ ظَهْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَإِ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي حَقِّ الشُّقَّةِ فِي مَاءِ الْبِئْرِ فَلَا يَمْنَعُهُ حَقَّهُ، وَلَكِنْ يَحْفَظُ جَانِبَ أَرْضِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْكَلَإِ حَتَّى لَا يُدْخِلَ دَابَّةَ الْمُسْتَقِي فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَخْرَجَ إلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ، وَحَاجَةَ ظَهْرِهِ، وَعَنْ نَافِعٍ رَفَعَ حَدِيثَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا مَاءً وَلَا كَلَأً وَلَا نَارًا فَإِنَّهُ مَتَاعٌ لِلْمُقْوِينَ وَقُوَّةٌ لِلْمُسْتَعِينِينَ»، وَالْمُقْوِي هُوَ الَّذِي فَنِيَ زَادُهُ، وَالْمُسْتَعِينُ هُوَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْتَاجُ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَثْبَتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ شَرِكَةً عَامَّةً بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِمَّا جَعَلَهُ الشَّرْعُ حَقًّا لَهُ.
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهَا فَيَشْرَبَ، وَيَسْقِيَ دَابَّتَهُ، وَبَعِيرَهُ، وَشِيَاهَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الشُّقَّةِ، وَالشُّقَّةُ عِنْدَنَا الشِّرْبُ لِبَنِي آدَمَ، وَالْبَهَائِمِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَاءِ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَمَنْ سَافَرَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْمَاءَ مِنْ وَطَنِهِ لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَخْذِ الْمَاءِ مِنْ الْآبَارِ، وَالْأَنْهَارِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى طَرِيقِهِ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ حَرَجٌ، وَكَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِظَهْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ يَعْجِزُ عَنْ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ، وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ، وَغَسْلِ الثِّيَابِ، وَأَحَدٌ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ جَدْوَلٌ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ إلَى أَرْضِهِ، وَبِجَنْبِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ صَاحِبُ مَاشِيَةٍ إذَا شَرِبَتْ الْمَاشِيَةُ مِنْهَا انْقَطَعَ الْمَاءُ لِكَثْرَةِ الْمَوَاشِي، وَقِلَّةِ مَاءِ الْجَدْوَلِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هَذَا مِنْ الشُّقَّةِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْجَدْوَلِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ الشُّقَّةَ مَا لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ فَأَمَّا مَا يَضُرُّ بِهِ، وَيَقْطَعُ حَقَّهُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِسَقْيِ الْأَرَاضِي، وَالنَّخِيلِ وَالشَّجَرِ، وَالزَّرْعِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ سَقْيَ نَخْلِهِ وَشَجَرِهِ، وَزَرْعِهِ مِنْ نَهْرِهِ أَوْ قَنَاتِهِ أَوْ بِئْرِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute