كَرَبَهَا أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْمُسَنَّاةَ أَوْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا ثُمَّ بَعْدَ التَّحْجِيرِ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ ثَلَاثُ سِنِينَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى وَطَنِهِ، وَيُهَيِّئَ أَسْبَابَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيُحْيِيَهُ فَيُجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ لِلرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ سَنَةً، وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِ فِي وَطَنِهِ سَنَةً، وَالرُّجُوعِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ سَنَةً فَإِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِإِحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُهُ، وَلَكِنْ يَنْتَظِرُهُ لِيَرْجِعَ، وَبَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهَا فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ إحْيَاؤُهَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ الدِّيَانَةِ فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ إذَا أَحْيَاهَا إنْسَانٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهِيَ لَهُ؛ لِأَنَّ بِالتَّحْجِيرِ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلْأَوَّلِ فَسَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ الْإِحْيَاءُ دُونَ التَّحْجِيرِ، وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ عَادِيَّ الْأَرْضِ لِلَّهِ، وَرَسُولِهِ فَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ»، وَالْمُرَادُ الْمَوَاتُ مِنْ الْأَرَاضِي سَمَّاهُ عَادِيًّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا مَا خَرِبَتْ عَلَى عَهْدِ عَادٍ، وَفِي الْعَادَاتِ الظَّاهِرَةِ مَا يُوصَفُ بِطُولِ مُضِيِّ الزَّمَانِ عَلَيْهِ يُنْسَبُ إلَى عَادٍ فَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ خَرَابُهُ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَعَنْ أَبِي مُعَسِّرٍ عَنْ أَشْيَاخِهِ رَفَعُوهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَضَى فِي السِّرَاجِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ أَنْ لَا يَحْبِسَهُ إلَّا عَلَى جَارِهِ» قَالَ أَبُو مُعَسِّرٍ السِّرَاجُ: السَّوَاقِي، وَهِيَ الْجَدَاوِلُ الَّتِي عِنْدَ سَفْحِ الْجَبَلِ يَجْتَمِعُ مَاءُ السَّيْلِ فِيهَا ثُمَّ يَنْحَدِرُ مِنْهَا إلَى الْوَادِي، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْعِبَارَةُ عَنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ عَمْرٍو بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ بِغَيْرِ حَقٍّ طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» قِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ تَطَوَّقَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَضَعُ عَلَيْهِ الْقَدَمَ بِمَنْزِلَةِ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ نَقَصَ مِنْ الْمُسَنَّاةِ فِي جَانِبِ أَرْضِهِ بِأَنْ حَوَّلَ ذَلِكَ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَذَلِكَ قَدْرُ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ أَخَذَهُ أَوْ كَانَ أَرْضُهُ بِجَنْبِ الطَّرِيقِ فَجَعَلَ الْمُسَنَّاةَ عَلَى الطَّرِيقِ لِتَتَّسِعَ بِهِ أَرْضُهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الطَّرِيقِ. يَعْنِي الْعَلَامَةَ بَيْنَ الْأَرَضِينَ.
وَقِيلَ: إنَّمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشِّبْرَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ غَصْبِ الْأَرَاضِي، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقَ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ عِظَمِ الْمَاءِ ثُمَّ فِي غَصْبِ الْأَرَاضِي، وَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى غَاصِبِ الْأَرَاضِي فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيَّنَ جَزَاءَ الْآخِذِ بِالْوَعِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْقِيَامَةِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ الضَّمَانِ ثَابِتًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُبَيِّنَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَمَسُّ ثُمَّ جَعَلَ الْمَذْكُورَ مِنْ الْوَعِيدِ جَمِيعَ جَزَائِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْوَعْدُ جَمِيعَ جَزَائِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute