مِنْ هَذَا النَّهْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا قَرَّرْنَا مِنْ الظَّاهِرِ لَا يَخْتَلِفُ بِاتِّحَادِ مَالِكِ الْأَرَضِينَ، وَاخْتِلَافِ الْمَالِكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْرُ مَعْرُوفًا لِقَوْمٍ خَاصًّا بِهِمْ فَلَا أَجْعَلُ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ شِرْبًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُنَازِعِينَ هُنَا دَلِيلٌ لِاسْتِحْقَاقِ سِوَى الظَّاهِرِ، وَهُوَ إضَافَةُ النَّهْرِ إلَيْهِمْ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إضَافَةُ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةُ إحْدَاثٍ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ حَفَرُوا هَذَا النَّهْرَ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُمْ فِيهِ شَيْئًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّهْرُ يَصُبُّ فِي أَجَمَةٍ، وَعَلَيْهِ أَرْضٌ لِقَوْمٍ مُخْتَلِفِينَ، وَلَا يَدْرِي كَيْفَ كَانَتْ حَالُهُ، وَلَا لِمَنْ كَانَ أَصْلُهُ فَتَنَازَعَ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَأَهْلُ الْأَجَمَةِ فِيهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَرْضِ بِالْحِصَصِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَجَمَةِ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْأَجَمَةِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْمَسِيلِ فِي أَجَمَتِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ إنَّمَا يُحْفَرُ لِسَقْيِ الْأَرَاضِي فِي الْعَادَةِ فَالظَّاهِرُ فِيهِ شَاهِدٌ لِأَصْحَابِ الْأَرَاضِي، وَهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِالنَّهْرِ فِي سَقْيِ أَرَاضِيهمْ مِنْهُ، وَلَكِنْ لِأَهْلِ الْأَجَمَةِ نَوْعُ مَنْفَعَةٍ أَيْضًا، وَهُوَ فَضْلُ الْمَاءِ الَّذِي يَقَعُ فِي أَجَمَتِهِمْ فَلَا يَكُونُ لِأَصْحَابِ الْأَرَاضِي قَطْعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالظَّاهِرِ، وَلِأَصْحَابِ الْأَرَاضِي مَنْفَعَةٌ فِي مَسِيلِ فَضْلِ الْمَاءِ فِي الْأَجَمَةِ فَلَا يَكُونُ لِأَصْحَابِ الْأَجَمَةِ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ حَائِطٍ تَنَازَعَ فِيهِ رَجُلَانِ، وَلِأَحَدِهِمَا فِيهِ اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ، وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَ الْآخَرَ رَفْعَ جُذُوعِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَ عَلَى صِفَةٍ لَا يُغَيَّرُ عَنْهَا إلَّا بِحُجَّةٍ مُلْزِمَةٍ، وَالظَّاهِرُ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَنَى حَائِطًا مِنْ حِجَارَةٍ فِي الْفُرَاتِ، وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ رَحًا يَطْحَنُ بِالْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ مِنْ النَّاسِ فِيهِ هَدَمَهُ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْفُرَاتِ حَقُّ الْعَامَّةِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَلَوْ بَنَى رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي ذَلِكَ، وَيَهْدِمَهُ فَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَائِطُ الَّذِي بَنَاهُ فِي الْفُرَاتِ يَضُرُّ بِمَجْرَى السُّفُنِ أَوْ الْمَاءِ بِأَنْ لَمْ يَسَعْهُ وَهُوَ فِيهِ أَثِمَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ فَهُوَ فِي سِعَةٍ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ إذَا بُنِيَ فِيهِ بِنَاءٌ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ فَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ خَاصَمَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قَضَى عَلَيْهِ بِهَدْمِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ سَوَاءُ (أَلَا تَرَى) أَنَّ لِلذِّمِّيِّ حَقَّ الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ كَمَا لِلْمُسْلِمِ فَكَانَ لَهُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مِثْلَ مَا لِلْمُسْلِمِ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ، وَالْمُكَاتَبُونَ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا خُصُومَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ، وَالْفُرَاتُ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، وَالْمَرْأَةِ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ، وَالصَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ تَبَعٌ لَا خُصُومَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْمَغْلُوبُ، وَالْمَعْتُوهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يُخَاصِمَ عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute