الْحُدُودَ ثَبَتَتْ شَرْعًا جَزَاءً عَلَى أَفْعَالٍ مَعْلُومَةٍ، فَتَعْدِيَتُهَا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ يَكُونُ بِالرَّأْيِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي الْحُدُودِ لَا فِي إثْبَاتِ أَصْلِهَا، وَلَا فِي تَعْدِيَةِ أَحْكَامِهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: لَا بَأْسَ إذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِ خَمْرٌ أَنْ يَجْعَلَهَا خَلًّا، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَقَالُوا: تَخْلِيلُ الْخَمْرِ جَائِزٌ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِإِبَاحَةِ خَلِّ الْخَمْرِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ»، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَصْطَبِغُ الْخُبْزَ بِخَلِّ خَمْرٍ، وَيَأْكُلُهُ، وَإِذَا كَانَ بِالِاتِّفَاقِ يَحِلُّ تَنَاوُلُ خَلِّ الْخَمْرِ، فَالتَّخْلِيلُ بِالْعِلَاجِ يَكُونُ إصْلَاحًا لِلْجَوْهَرِ الْفَاسِدِ، وَذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ، وَيَأْتِي بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ اسْتَشَارَ النَّاسُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي شَرَابٍ مُرَقَّقٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ النَّصَارَى: إنَّا نَصْنَعُ شَرَابًا فِي صَوْمِنَا، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ائْتِنِي بِشَيْءٍ مِنْهُ قَالَ: فَأَتَاهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَالَ: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِطِلَاءِ الْإِبِلِ كَيْف تَصْنَعُونَهُ؟ قَالَ نَطْبُخُ الْعَصِيرَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ، فَصَبَّ عَلَيْهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَاءً، وَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ عُبَادَةُ مَا أَرَى النَّارَ تُحِلُّ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ يَا أَحْمَقُ أَلَيْسَ يَكُونُ خَمْرًا؟ ثُمَّ يَصِيرُ خَلًّا، فَنَأْكُلَهُ، وَفِي هَذَا دَلِيلُ إبَاحَةِ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَشَارَهُمْ فِي الْمُشْتَدِّ دُونَ الْحُلْوِ، وَهُوَ مِمَّا يَكُونُ مُمْرِيًا لِلطَّعَامِ مُقَوَّيَا عَلَى الطَّاعَةِ فِي لَيَالِي الصِّيَامِ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَسَنَ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ مَشُورَةً فِي أُمُورِ الدِّينِ خُصُوصًا فِيمَا يَتَّصِلُ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِحْضَارِ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَجْلِسَ الشُّورَى، فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي قَالَ مَا قَالَهُ قَدْ كَانَ حَضَرَ مَجْلِسَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلشُّورَى، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ خَبَرَ النَّصْرَانِيِّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ، وَقَدْ اسْتَوْصَفَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَوَصَفَهُ لَهُ، وَاعْتَمَدَ خَبَرَهُ حَتَّى شَرِبَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ، وَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِ طَعَامِهِمْ، وَشَرَابِهِمْ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي الشُّرْبِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِيَنْظُرُوا إلَيْهِ، ثُمَّ جَوَّزَ الشُّرْبَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَمَنْ يَسْتَقْصِي فِي هَذَا الْبَابِ يَقُولُ: تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ جِزْيَةً لِبَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ شَرِبَ مِنْهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُثَلَّثَ إنْ كَانَ غَلِيظًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُرَقَّقَ بِالْمَاءِ، ثُمَّ يُشْرِبَ مِنْهُ كَمَا، فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَسْقَى الْعَبَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَتَاهُ بِشَرَابٍ، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إلَى فِيهِ قَطَّبَ وَجْهَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَصَبَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute