الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا، وَكَثِيرُهَا، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَخِيرُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ السُّكْرُ كَالْمُؤْلِمِ اسْمٌ لِمَا يَتَوَلَّدُ الْأَلَمُ مِنْهُ، وَإِنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ لِعَيْنِهَا، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ، وَفِي الْمُثَلَّثِ، وَالْمَطْبُوخِ مِنْ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ يُفَصَّلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ مِنْهُ مَا يَتَعَقَّبُهُ السُّكْرُ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْكَأْسُ الْمُسْكِرَةُ هِيَ الْحَرَامُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَأَمَّا مِثْلُ ذَلِكَ دَمٌ فِي ثَوْبٍ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ إنْ كَانَ قَلِيلًا، فَإِذَا كَثُرَ لَمْ تَحِلَّ الصَّلَاةُ فِيهِ، وَمِثْلُهُ رَجُلٌ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ مِنْ كَسْبِهِ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَسْرَفَ فِي النَّفَقَةِ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي، وَكَذَلِكَ النَّبِيذُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْرَبَهُ عَلَى طَعَامٍ، وَلَا خَيْرَ فِي الْمُسْكِرِ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إسْرَافٌ، فَإِذَا جَاءَ السُّكْرُ، فَلْيَدَعْ الشُّرْبَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ اللَّبَنَ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الشَّرَابِ حَلَالٌ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَ يُسْكِرُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْبَنْجَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَدَاوَى بِهِ الْإِنْسَانُ، فَإِذَا كَادَ أَنْ يَذْهَبَ عَقْلُهُ مِنْهُ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ السُّكْرُ إلَّا أَنَّ الْخَمْرَ الْقَلِيلَ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ كَمَا قَرَّرْنَا، فَيَحْرُمُ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إلَى الْكَثِيرِ، وَذَلِكَ فِي الْمُثَلَّثِ لَا يُوجَدُ، فَإِنَّهُ غَلِيظٌ لَا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ بَلْ بِالْقَلِيلِ يَسْتَمْرِئُ طَعَامَهُ، وَيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْكَثِيرُ يُصَدِّعُ رَأْسَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الَّذِينَ يَعْتَادُونَ شُرْبَ الْمُسْكِرِ لَا يَرْغَبُونَ فِي الْمُثَلَّثِ أَصْلًا، وَلَا يُقَالُ: الْقَدَحُ الْأَخِيرُ مُسْكِرٌ بِمَا تَقَدَّمَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَا يَتَّصِلُ بِهِ السُّكْرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتْخِمِ مِنْ الطَّعَامِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الطَّعَامِ بِقَدْرِ مَا يُغَذِّيهِ، وَيُقَوِّي بَدَنَهُ حَلَالٌ، وَمَا يُتْخِمُهُ، وَهُوَ الْأَكْلُ، فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ ثُمَّ الْمُحَرَّمُ مِنْهُ الْمُتْخِمُ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَكُونُ مُتْخِمًا إلًّا بِاعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الشَّرَابِ. .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ إنْسَانًا أَتَاهُ، وَفِي بَطْنِهِ صَفْرَاءُ، فَقَالَ وُصِفَ لِي السُّكْرُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، وَبِهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ: كُلُّ شَرَابٍ مُحَرَّمٍ، فَلَا يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى يَسْتَأْذِنُهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي قَالَ إنْ كَانَ فِي بَطْنِكَ صَفْرَاءُ، فَعَلَيْك بِمَاءِ السُّكَّرِ، وَإِنْ كَانَ بِك رُطُوبَةٌ، فَعَلَيْك بِمَاءِ الْعَسَلِ، فَهُوَ أَنْفَعُ لَك، فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ الْحَرَامِ، فَإِنَّهُ يُوجَدُ مِنْ جِنْسِهِ مَا يَكُونُ حَلَالًا، وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي رِجْسٍ شِفَاءً»، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الشِّفَاءِ أَصْلًا، فَقَدْ يُشَاهَدُ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْخُلْفُ فِي خَبَرِ الشَّرْعِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ رِجْسًا لِلشِّفَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجَدُ مِنْ الْحَلَالِ مَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ، أَوْ يَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute