للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

«فَامْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَتَزَوَّدُوا»، فَإِنَّ الْقُرْبَةَ تُنَادِي بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، وَالتَّدْبِيرُ فِي اللَّحْمِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَكْلِ، وَالْإِمْسَاكِ، وَالْإِطْعَامِ إلَى صَاحِبِهِ، إلَّا أَنَّهُ لِلضِّيقِ وَالشِّدَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ نَهَاهُمْ عَنْ الْإِمْسَاكِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالشَّفَقَةِ لِيَتْبَعَ مُوسِرُهُمْ عَلَى مُعْسِرِهِمْ، وَلَمَّا انْعَدَمَ ذَلِكَ التَّضْيِيقُ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْإِمْسَاكِ، فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي، فَقَدْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ نَهَاهُمْ عَنْ الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي الْمُتَثَلِّمَةِ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ، وَلِهَذَا أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ، وَشَقِّ الرَّوَايَا، فَلَمَّا تَمَّ انْزِجَارُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَذِنَ لَهُمْ فِي الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ، وَأَنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا، وَلَا يُحَرِّمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْكِرَ مَا يَتَعَقَّبُهُ السُّكْرُ، وَهُوَ الْكَأْسُ الْأَخِيرُ. .

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ أُتِيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَعْرَابِيٍّ سَكْرَانَ مَعَهُ إدَاوَةٌ مِنْ نَبِيذٍ مُثَلَّثٍ، فَأَرَادَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا، فَمَا أَعْيَاهُ إلَّا ذَهَابُ عَقْلِهِ، فَأَمَرَ بِهِ، فَحُبِسَ حَتَّى صَحَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ الْحَدَّ، وَدَعَا بِإِدَاوَتِهِ، وَبِهَا نَبِيذٌ، فَذَاقَهُ، فَقَالَ: أَوَّهْ هَذَا فَعَلَ بِهِ هَذَا الْفِعْلَ، فَصَبَّ مِنْهُ فِي إنَاءٍ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ، وَقَالَ إذَا رَابَكُمْ شَرَابُكُمْ، فَاكْسِرُوهُ بِالْمَاءِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْتَالَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ بِشُبْهَةٍ يُظْهِرُهَا كَمَا قَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ»، وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا، وَفِي حَدِيثِ الشُّرْبِ عَلَى الْخُصُوصِ لِضَعْفٍ فِي سَبَبِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ أُقِيمُ عَلَيْهِ حَدًّا، فَيَمُوتُ، فَآخُذُ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِآرَائِنَا، فَلِهَذَا طَلَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَخْرَجًا لَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ يُحْبَسُ حَتَّى يَصْحُوَ، ثُمَّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْإِقَامَةِ عَلَيْهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ، فَإِنَّهُ لِاخْتِلَاطِ عَقْلِهِ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ الضَّارِبَ يُمَازِحُهُ بِمَا يَضْرِبُهُ، وَالْمَقْصُودُ إيصَالُ الْأَلَمِ إلَيْهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَصْحُ.

وَتَأْخِيرُ إقَامَةِ الْحَدِّ بِعُذْرٍ جَائِزٌ كَالْمَرْأَةِ إذَا لَزِمَهَا حَدُّ الزِّنَا بِالرَّجْمِ، وَهِيَ حُبْلَى لَا يُقَامُ عَلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ.

وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشُرْبِ نَبِيذِ الزَّبِيبِ إذَا كَانَ مَطْبُوخًا، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدْ شَرِبَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ، ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ أَذِنَ لَهُ فِي الشُّرْبِ مِنْ إدَاوَتِهِ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ شَرِبَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ أَتَضْرِبُنِي فِيمَا شَرِبْته، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا حَدَدْتُك لِسُكْرِكَ، فَهُوَ دَلِيلٌ أَنَّهُ إذَا سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ الَّذِي يَجُوزُ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَعَنْ حَمَّادٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ دَخَلْت عَلَى إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ يَتَغَذَّى، فَدَعَا بِنَبِيذٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَانِي، فَرَأَى فِي الْكَرَاهَةَ، فَحَدَّثَنِي عَنْ عَلْقَمَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>