وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ، فَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ، فَإِنْ شَرِبَ رَجُلٌ مَاءً فِيهِ خَمْرٌ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ، وَلَا رِيحُهُ، وَلَا لَوْنُهُ لَمْ يُحَدَّ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْغَالِبِ، وَالْغَالِبُ مَاءٌ نَجِسٌ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ لَا تَدْعُو إلَى شُرْبِ مِثْلِهِ عَلَى قَصْدِ التَّلَهِّي، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَمْرُ غَالِبًا حَتَّى كَانَ يُوجَدُ فِيهِ طَعْمُهُ، وَرِيحُهُ، وَتَبَيَّنَ لَوْنُهُ حَدَدْتُهُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ، وَالْغَالِبُ هُوَ الْخَمْرُ؛ وَلِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَى شُرْبِ مِثْلِهِ لِلتَّلَهِّي، وَقَدْ يُؤْثِرُ الْمَرْءُ الْمَمْزُوجَ عَلَى الصِّرْفِ، وَقَدْ يَشْرَبُ بِنَفْسِهِ صِرْفًا، وَيَمْزُجُ لِجُلَسَائِهِ، وَهُوَ وَإِنْ مَزَجَهُ بِالْمَاءِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا اسْمًا، وَحُكْمًا، وَمَقْصُودًا وَلَوْ لَمْ يَجِدْ فِيهِ رِيحَهَا، وَوَجَدَ طَعْمَهَا حُدَّ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ فِي شُرْبِهَا لِطَعْمِهَا لَا لِرِيحِهَا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ لِإِذْهَابِ رِيحِهَا، وَلِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي طَبْعِهَا.
وَلَوْ مَلَأَ فَاهُ خَمْرًا، ثُمَّ مَجَّهُ، وَلَمْ يَدْخُلْ جَوْفَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ذَاقَ الْخَمْرَ، وَمَا شَرِبَ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى الشُّرْبِ بِهَذِهِ، وَأَنَّ الصَّائِمَ لَوْ فَعَلَهُ مَعَ ذِكْرِهِ لِلصَّوْمِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ، وَكَذَلِكَ الطَّبْعُ لَا يَمِيلُ إلَى هَذَا الْفِعْلِ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ الزَّجْرُ بِخِلَافِ شُرْبِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الشُّرْبِ، وَالطَّبْعُ مَائِلٌ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ قُلْت، وَالتَّمْرُ الْمَطْبُوخُ يُمْرَسُ فِيهِ الْعِنَبُ، فَيَغْلِيَانِ جَمِيعًا، وَالْعِنَبُ غَيْرُ مَطْبُوخٍ قَالَ: أَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَنْهَى عَنْهُ، وَلَا أَحُدُّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَسْكَر، وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي طَبْخِ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يُعْصَرَ، فَإِنَّ الْحَسَنَ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرُ يَكْفِي أَدْنَى الطَّبْخِ فِيهِ، وَلَكِنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، وَقَالَ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ: إنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَا مَا فِيهِ بِالطَّبْخِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الْعِنَبِ هُوَ الْعَصِيرُ، وَالْعَصْرُ مُمَيِّزٌ لَهُ عَنْ التُّفْلِ وَالْقِشْرِ، وَكَمَا لَا يَحِلُّ الْعَصِيرُ بِالطَّبْخِ مَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ ثُلُثَاهُ، فَكَذَلِكَ الْعِنَبُ.
فَإِنْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، أَوْ بَيْنَ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ بِالطَّبْخِ ثُلُثَاهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ خَلَطَ عَصِيرَ الْعِنَبِ بِنَقِيعِ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ لَا يَحِلُّ بِالطَّبْخِ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ، وَفِي مِثْلِهِ يُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا، وَذَكَرَ الْمُعَلَّى فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ نَقِيعَ التَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ ثُمَّ نُقِعَ فِيهِ تَمْرٌ، أَوْ زَبِيبٌ، فَإِنْ كَانَ مَا نُقِعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ، وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَحِلَّ شُرْبُهُ مَا لَمْ يُطْبَخْ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَقِيعٍ مَطْبُوخٍ، وَلَوْ صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ نَقِيعٍ لَمْ يَحِلَّ شُرْبُهُ إذَا اشْتَدَّ، وَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute