أَوْ لَتَشْرَبَنَّ هَذَا الْخَمْرَ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ الْمَيْتَةَ، أَوْ لَحْمَ هَذَا الْخِنْزِيرِ، فَفَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَنَا فِي سَعَةٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ، وَهِيَ مَفْسَدَةٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَى حَالَةَ الضَّرُورَةِ مِنْ التَّحْرِيمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: ١١٩]، وَالْكَلَامُ الْمُقَيَّدُ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، فَظَهَرَ أَنَّ التَّحْرِيمَ مَخْصُوصٌ بِحَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا لِخَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، فَالْتَحَقَتْ هَذِهِ الْأَعْيَانُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ بِسَائِرِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّنَاوُلِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ آثِمًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَكُونُ آثِمًا، وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْ الْمَيْتَةِ حَتَّى مَاتَ، فَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ آثِمًا، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ آثِمًا، فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِثْمَ يَنْتَفِي عَنْ الْمُضْطَرِّ، وَلَا تَنْكَشِفُ الْحُرْمَةُ بِالضَّرُورَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {: فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣]، وَقَالَ تَعَالَى {: فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: ٣].
وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِصِفَةِ أَنَّهَا مَيْتَةٌ، أَوْ خَمْرٌ، وَبِالضَّرُورَةِ لَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ الْحَرَامُ، فَلَا يَكُونُ آثِمًا فِيهِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَتَنَاوَلُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: ١١٩]، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: يَصِيرُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَقَدْ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، أَوْ يُقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، فَامْتِنَاعُهُ مِنْ التَّنَاوُلِ حَتَّى تَلِفَ كَامْتِنَاعِهِ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ الْحَلَالِ حَتَّى تَلِفَتْ نَفْسُهُ، فَيَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ، وَصِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ تُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِمَعْنَى الرِّفْقِ بِالْمُتَنَاوِلِ، وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ، وَيَصُدَّهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ لِمَا فِي طَبْعِ الْخِنْزِيرِ مِنْ الِانْتِهَابِ، وَلِلْغِذَاءِ أَثَرٌ فِي الْخَلْقِ، وَالرِّفْقُ هُنَا فِي الْإِبَاحَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْبَعْضِ أَهْوَنُ مِنْ إتْلَافِ الْكُلِّ، وَفِي الِامْتِنَاعِ مِنْ التَّنَاوُلِ هَلَاك الْكُلُّ، فَتَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْعَدَ بِقَطْعِ عُضْوٍ، أَوْ بِضَرْبِ مِائَةِ سَوْطٍ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاءِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُضْطَرَّ كَمَا لَا يُبَاحُ لَهُ قَتْلُ الْإِنْسَانِ لِيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ لَا يُبَاحُ لَهُ قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَالضَّرْبُ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِتْنَةَ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ، وَالْأَعْضَاءُ فِي هَذَا سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ أَوْعَدَهُ بِقَطْعِ أُصْبُعٍ، أَوْ أُنْمُلَةٍ يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِلْجَاءُ، فَكُلّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ بِاحْتِرَامِ النَّفْسِ تَبَعًا لَهَا، وَلَوْ أَوْعَدَهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ، أَوْ سَوْطَيْنِ لَمْ يَسَعْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute