للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَنَاوُلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِمَا هَدَّدَهُ بِهِ إنَّمَا يَغُمُّهُ ذَلِكَ، أَوْ يُؤْلِمُهُ أَلَمًا يَسِيرًا، وَالْإِلْجَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهُ تَنَاوُلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَالْغَمُّ الَّذِي يُصِيبُهُ بِالْحَبْسِ رُبَّمَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ، أَوْ سَوْطَيْنِ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْجُهَّالَ يَتَهَازَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ضَرْبٍ لَا يَخَافُ مِنْهُ تَلَفَ نَفْسٍ، أَوْ ذَهَابَ عُضْوٍ فِي أَكْثَرِ الرَّأْيِ، وَمَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ يُقَامُ مُقَامَ الْحَقِيقَةِ فِيمَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً، قَالَ: وَقَدْ وَقَّتَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ أَدْنَى الْحُدُودِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، فَإِنْ هُدِّدَ بِأَقَلَّ مِنْهَا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ، وَالتَّعْزِيرُ يُقَامُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: نَصْبُ الْمِقْدَارِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ، وَلَا نَصَّ فِي التَّقْدِيرِ هُنَا، وَأَحْوَالُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَحَمُّلِ أَبْدَانِهِمْ لِلضَّرْبِ، وَخِلَافِهِ، فَلَا طَرِيقَ سِوَى رُجُوعِ الْمُكْرَهِ إلَى غَالِبِ رَأْيِهِ، فَإِنْ وَقَعَ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا تَتْلَفُ بِهِ نَفْسُهُ، وَلَا عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا يَصِيرُ مُلْجَأً، وَإِنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ التَّلَفَ مِنْهُ يَصِيرُ مُلْجَأً.

وَإِنْ كَانَ التَّهْدِيدُ بِعَشَرَةِ أَسْوَاطٍ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِي التَّعْزِيرِ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا إذَا كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَا يُتْلِفُ بِهِ نَفْسَهُ، وَلَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ، وَكَذَلِكَ إنْ تَغَلَّبَ هَؤُلَاءِ اللُّصُوصُ عَلَى بَلَدٍ، وَلَكِنَّهُمْ أَخَذُوا رَجُلًا فِي طَرِيقٍ، أَوْ مِصْرٍ لَا يَقْدِرُ فِيهَا عَلَى غَوْثٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ خَوْفُهُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ بِتَمَكُّنِهِمْ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدُوهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْغَوْثُ، وَلَوْ تَوَعَّدُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِحَبْسِ سَنَةٍ، أَوْ بِقَيْدِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعُوهُ طَعَامًا، وَلَا شَرَابًا لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ، وَالْقَيْدَ يُوجِبُ الْهَمَّ، وَالْحَزَنَ، وَلَا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسٍ، وَلَا عُضْوٍ، وَلِدَفْعِ الْحَزَنِ لَا يَسَعُهُ تَنَاوُلُ الْحَرَامِ (أَلَا تَرَى) أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ بِشُرْبِهَا دَفْعَ الْهَمِّ، وَالْحَزَنِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ بِالْحَبْسِ لَتَحَقَّقَ بِحَبْسِ يَوْمٍ، أَوْ نَحْوِهِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ، وَإِنْ قَالُوا لَنُجِيعَنَّكَ أَوْ لَتَفْعَلَنَّ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى يَجِيءَ مِنْ الْجُوعِ مَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ؛ لِأَنَّ الْجُوعَ شَيْءٌ يُهَيِّجُ مِنْ طَبْعِهِ، وَبَادِي الْجُوعِ لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ إنَّمَا يُخَافُ التَّلَفُ عِنْدَ نِهَايَةِ الْجُوعِ بِأَنْ تَخْلُوَ الْمَعِدَةُ عَنْ مَوَادِّ الطَّعَامِ فَتَحْتَرِقَ، وَشَيْءٌ مِنْهُ لَا يُوجَدُ عِنْدَ أَدْنَى الْجُوعِ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِي هَذَا مُعْتَبَرٌ بِالضَّرُورَةِ، وَالْمُضْطَرُّ الَّذِي يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْعَطَشِ، وَالْجُوعِ يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَا يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَدْنَى الْجُوعِ مَا لَمْ يَخَفْ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا هَدَّدُوهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>