للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَشَارَ حُذَيْفَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ قَالَ: فِتْنَةُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ، وَكَذَلِكَ مَا دُونَ النَّفْسِ لَوْ قِيلَ: لَهُ لَتُحْرِقَنَّ يَدَك بِالنَّارِ، أَوْ لَتَقْطَعَنَّهَا بِهَذَا الْحَدِيدِ، فَقَطَعَهَا قُطِعَتْ يَدُ الَّذِي أَكْرَهَهُ إنْ كَانَ وَاحِدًا لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ عَدَدًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ فِي يَدِهِ قَوَدٌ، وَعَلَيْهِمْ دِيَةُ الْيَدِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِخِلَافِ النَّفْسِ.

، وَأَصْلُ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْمُبَاشَرَةِ حَقِيقَةً، فَإِنَّهُ لَوْ قَطَعَ جَمَاعَةٌ يَدَ رَجُلٍ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْقَوَدُ عِنْدَنَا، وَلَوْ قَتَلُوا رَجُلًا كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ، وَيَأْتِي هَذَا الْفَرْقُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

، وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ مَالَهُ فِي الْبَحْرِ، أَوْ عَلَى أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَهُ، أَوْ يَكْسِرَ مَتَاعَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَالْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ فِيهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَعِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ يَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا لِلْمُكْرِهِ، فَكَأَنَّهُ بَاشَرَ الْإِتْلَافَ بِيَدِهِ وَالشَّافِعِيُّ فِي هَذَا لَا يُخَالِفُنَا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا صَارَ الْإِقْدَامُ مُبَاحًا لَهُ كَانَ هُوَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ خَاصَّةً، وَأَصْحَابُهُ خَرَّجُوا لَهُ قَوْلَيْنِ سِوَى هَذَا: أَحَدُهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ لِصَاحِبِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ حَقِيقَةً، ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي، أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ، وَالثَّانِي أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِتْلَافِ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرَهِ، وَالْقَصْدُ إلَى الْإِضْرَارِ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرِهِ، فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْإِتْلَافِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ؛ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ، أَوْ قَيْدٍ، فَفَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ، وَلَا قَوَدٌ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ إنَّمَا يَصِيرُ كَالْآلَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْإِلْجَاءِ، وَهُوَ مَا إذَا خَافَ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي التَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ، وَالْقَيْد مَعْنَى خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، فَيَبْقَى الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ، فَيُؤَاخِذُ بِحُكْمِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَبْسِ، وَالْقَيْدِ إلَّا هَمٌّ يَلْحَقُهُ، وَمَنْ يُتْلِفُ مَالَ الْغَيْرِ اخْتِيَارًا، فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ دَفْعَ الْغَمِّ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِحَسَدِهِ إيَّاهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَالِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ عَنْهُ. .

وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِتَلَفٍ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ طَعَامًا لَهُ، أَوْ يَلْبَسَ ثَوْبًا لَهُ، فَلَبِسَهُ مُكْرَهًا حَتَّى تَخَرَّقَ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَسَادٍ بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَ نَفْسِهِ إلَى حَاجَتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ، فَسَادًا.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْأَبَ، وَالْوَصِيَّ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ لِلصَّبِيِّ، وَلَا يَكُونُ فَسَادًا مِنْهُمَا، ثُمَّ هَذَا مِنْ وَجْهٍ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ التَّقْتِيرَ وَتَرْكَ الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ وُجُودِ السَّعَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَفِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ دَفْعُ الْفَسَادِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا أَمَرَهُ بِهِ لَيْسَ بِفَسَادٍ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ إحْرَاقِ الْمَالِ بِالنَّارِ أَوْ طَرْحِهِ فِي الْمَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ، فَسَادٌ لَا انْتِفَاعٌ بِالْمَالِ. .

وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ بِالسَّيْفِ، أَوْ

<<  <  ج: ص:  >  >>