للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُوجَدْ الْإِذْنُ لَمْ يَسَعْهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَطْعِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَإِنْ قَطَعَهَا، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، وَقَالَ لَهُ إنْسَانٌ اقْطَعْ يَدِي، فَقَطَعَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، فَإِذَا كَانَ الْقَاطِعُ مُكْرَهًا أَوْلَى، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرَفِ لِصَاحِبِ الطَّرَفِ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَوْ أَسْقَطَهُ بِالْعَفْوِ فِي الِانْتِهَاءِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّرَفَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهٍ، وَفِي الْأَمْوَالِ الْبَدَلُ مُفِيدٌ عَامِلٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ سَعَتُهُ عَامِلٌ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ حَتَّى إذَا قَالَ لَهُ: أَحْرِقْ ثَوْبِي هَذَا لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إنْ فَعَلَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ الْبَدَلُ الْمُفِيدُ عَامِلٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَهُوَ إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ أَكَلَةٌ، فَأَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ، فَالْبَدَلُ الَّذِي هُوَ سَعَتُهُ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ فِيهِ أَيْضًا، فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاطِعِ، وَلَا عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ مُكْرَهًا أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْمُكْرِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْقَطْعِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ، فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الْإِلْجَاءِ يَلْغُو إذْنُهُ، وَفِعْلُ الْقَطْعِ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً فِي ذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ.

وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّهُ، فَقَالَ لَهُ الْمَقْصُودُ اُقْتُلْنِي، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ، فَقَتَلَهُ بِالسَّيْفِ، فَعَلَى الْآمِرِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ مُلْجَأٌ إلَى الْقَتْلِ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُلْجِئِ، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا بِإِذْنِهِ، وَفِي هَذَا يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ دُونَ الْقِصَاصِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَوْ رَدَّهُ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ الْمُكْرِهِ، فَإِنَّ زُفَرَ لَا يَرَى الْقَوَدَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ إذَا قَالَ: اُقْتُلْ أَبِي، أَوْ ابْنِي، فَقَتَلَهُ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ هُوَ الْوَارِثَ.

وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي قَوْلِهِ اُقْتُلْ ابْنِي كَقَوْلِ زُفَرَ، وَفِي قَوْلِهِ اُقْتُلْنِي كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِذْنَ فِي الِابْتِدَاءِ كَالْعَفْوِ فِي الِانْتِهَاءِ، وَبَعْدَمَا جَرَحَهُ لَوْ عُفِيَ عَنْ الْجِنَايَةِ، وَمَاتَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ، فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ فِي الِابْتِدَاءِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ لَهُ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ، فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَمَا فِي الطَّرَفِ: وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ بَدَلَ النَّفْسِ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ، وَالْحَقُّ عِنْدَ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ، فَإِذْنُهُ فِي الْقَتْلِ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ، فَكَانَ لَغْوًا، وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِخِلَافِ بَدَلِ الطَّرَفِ

<<  <  ج: ص:  >  >>