لَنَقْتُلَنَّكَ، فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ، وَفِيمَا، فَعَلَهُ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ أَفْطَرَ وَسِعَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ آثِمًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا، فَصَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَقِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتُفْطِرَنَّ، فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُعْتَدًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٤]، فَعِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِمَا أَيَّامُهُ كَلَيَالِيِهِ، وَكَأَيَّامِ شَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، فَيَكُونُ فِي الِامْتِنَاعِ حَتَّى يَمُوتَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ فِي فَصْلِ الْمَيْتَةِ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ، فَالْأَمْرُ بِالصَّوْمِ فِي حَقِّهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥]، وَالْفِطْرُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةٌ، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُفْطِرًا بِالتَّنَاوُلِ مُكْرَهًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِيرُ مُفْطِرًا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْخَاطِئَ، وَالْمُكْرَهَ عِنْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَقَالَ: الْمُكْرَهُ مَسْلُوبُ الْفِعْلِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْإِتْلَافَ الْحَاصِلَ بِفِعْلِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُكْرَهُ إنَّمَا يُجْعَلُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ، وَهُوَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْغَيْرِ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ فِعْلِهِ فِي حَقِّ الْإِفْطَارِ عَلَيْهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ كَانَ صَائِمًا لَمْ يَصِرْ مُفْطِرًا بِهَذَا، فَلَوْ جَعَلْنَا الْفِعْلَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ رَجَعَ إلَى الْإِهْدَارِ، وَلَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ تَأْثِيرٌ فِي الْإِهْدَارِ، وَلَا فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَبِهِ فَارَقَ حُكْمَ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْفِعْلَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى الْإِهْدَارِ، وَلَا إلَى تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ. .
وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَأْخُذَنَّ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ فَتُعْطِينِيهِ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مُبَاحٌ لَهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ، وَقِيَامُ الْحُرْمَةِ، وَالتَّقَوِّي حَقًّا لِلْمَالِكِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعَزِيمَةُ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ، فَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا، وَقَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا بِعَيْنِهِ نَصًّا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْأَخْذِ هُنَا لَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ، فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
وَلَوْ أَنَّ مُحْرِمًا قِيلَ لَهُ: لَنَقْتُلَنَّكَ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الصَّيْدَ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: ٩٥]، فَكَأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَزِيمَةٌ، وَإِبَاحَةَ قَتْلِ الصَّيْدِ رُخْصَةٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute