للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فِيهَا} [النساء: ٩٣] الْآيَةَ.

وَمِنْهَا الْقِصَاصُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: ٤٥] وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا فَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ النَّسْخِ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا فَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: ١٧٨] ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩]، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ عَدُوِّهِ فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ انْزَجَرَ عَنْ قَتْلِهِ فَكَانَ حَيَاةً لَهُمَا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ فَهُوَ يَقْصِدُ إفْنَاءَهُمْ؛ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالشَّرْعُ مَكَّنَهُمْ مِنْ قَتْلِهِ قِصَاصًا لِدَفْعِ شَرِّهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِحْيَاءُ الْحَيِّ فِي دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْهُ، وَقَالَ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ مُوجِبُهُ الْقَوَدُ فَإِنَّ نَفْسَ الْعَمْدِ لَا يَكُونُ قَوَدًا، وَقَالَ: صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» أَيْ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْقِصَاصُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ، وَفِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ هُوَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: ١١] وَاتِّبَاعُ أَثَرِ الشَّيْءِ فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، فَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْ الْمُسَاوَاةِ لِذَلِكَ.

وَمِنْ حُكْمِهِ: حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «لَا شَيْءَ لِلْقَاتِلِ» أَيْ مِنْ الْمِيرَاثِ.

وَمِنْ حُكْمِهِ: وُجُوبُ الْمَالِ بِهِ عِنْدَ التَّرَاضِي أَوْ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: ١٧٨] أَيْ فَمَنْ أُعْطِيَ لَهُ مِنْ دَمِ أَخِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ بِمَعْنَى الْفَضْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ويَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ} [البقرة: ٢١٩]، وَالْمُرَادُ بِهِ إذَا رَغِبَ الْقَاتِلُ فِي أَدَاءِ الدِّيَةِ فَالْمَوْلَى مَنْدُوبٌ إلَى مُسَاعَدَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى الْقَاتِلِ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ إذَا سَاعَدَهُ الْوَلِيُّ، وَهَذِهِ الدِّيَةُ تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ إذَا كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَلِأَنَّ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مَعْنَى الزَّجْرِ، وَمَعْنَى الزَّجْرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ مُجْحِفًا بِهِ، وَهُوَ الْكَثِيرُ مِنْ مَالِهِ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِهَذَا الْفَصْلِ عِنْدَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ بِالْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ إلَّا أَنْ يُصَالِحَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلَ عَلَى الدِّيَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ: مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْتَارَ أَخْذَ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» فَهَذَا تَنْصِيصٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>