للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ فِي الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ أَلْفٍ مُدَّعٍ بِخَمْسِمِائَةٍ ضَرُورَةً فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمْ فِي دَعْوَى الْمَالِ مُطْلَقًا.

وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالصُّلْحِ عَلَى عَبْدٍ وَالْآخَرُ بِالصُّلْحِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِعَقْدٍ آخَرَ، وَالْمُدَّعِي لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شَهَادَةَ الْآخَرِ.

وَعَفْوُ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ عَنْ قِصَاصٍ وَاجِبٍ لِلصَّغِيرِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِمَا اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ شَرْعًا لَا إسْقَاطَهُ وَإِسْقَاطُهُ الْقِصَاصَ كَإِسْقَاطِهِ دَيْنًا وَاجِبًا لِلصَّبِيِّ فَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَيَئُولُ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ الْوَاجِبَ لِلصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الِابْنَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ، وَالْأَبُ بِهَذَا الِاسْتِيفَاءِ يَقْطَعُ عَلَيْهِ خِيَارَهُ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِصَاصِ التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لِلصَّغِيرِ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّغِيرَ إذَا بَلَغَ رُبَّمَا يَمِيلُ إلَى الْعَفْوِ فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْأَبُ كَانَ ذَلِكَ اسْتِيفَاءً مَعَ شُبْهَةِ الْعَفْوِ وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ وِلَايَةُ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ كَوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَالَ، وَالنَّفْسَ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ نَظَرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَفُوتُ بِمَوْتِ الْقَاتِلِ، أَوْ بِهَرَبِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْقِصَاصَ عَلَى فَوْرِ الْقَتْلِ فَعَلَ مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لِلصَّبِيِّ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ إذَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرَ قَاتِلَ وَلِيِّهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَعَلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ قِصَاصًا حَصَلَ التَّشَفِّي نَظِيرَ مَا لَوْ زَوَّجَهُ الْأَبُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ شَرُّ الْقَتْلِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ فِي الْحَالِ وَشُبْهَةُ عَفْوٍ بِتَوَهُّمِ وُجُودِهِ فِي الْحَالِ تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ.

فَأَمَّا شُبْهَةُ عَفْوٍ بِتَوَهُّمِ اعْتِرَاضِهِ فِي الثَّانِي فَلَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَلِيٍّ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فَيَعْفُوَ وَلَا مَعْنًى لِمَا قَالَ: أَنَّ فِيهِ قَطْعَ خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ مَالَ وَلَدِهِ وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْعَيْنِ وَبَيْنَ إزَالَتِهِ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُ قَطْعًا لِخِيَارِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَالِ، وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَيْسَ بِمَالٍ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْوَصِيِّ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ؛ لِأَنَّ الطَّرَفَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِي؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ صَالَحَ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ جَازَ صُلْحُهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْقِصَاصِ

<<  <  ج: ص:  >  >>