الْمَقْصُودِ وَكَمَا أَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْقَطْعِ يَكُونُ إتْمَامًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ، فَقَدْ يَكُونُ قَطْعًا لِمُوجِبِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِهِ وَلَا تَصَوُّرَ لِلسِّرَايَةِ بَعْدَ فَوْتِ الْمَحَلِّ فَيُجْعَلُ كَالْبُرْءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلِلِاحْتِمَالِ أَثْبَتْنَا الْجَنَابَةَ لِلْأَوَّلِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِ الْعَمْدِ وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ خَطَأً، وَالْأُخْرَى عَمْدًا أُخِذَ بِهِمَا جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى خَطَأً فَإِنَّهُ يَجِبُ دِيَةُ الْيَدِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَال لِجَعْلِ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ اخْتِلَافِ صِفَةِ الْفِعْلِ وَمُوجِبِهِ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَخَلَّلَ بِالْجِنَايَتَيْنِ بُرْءٌ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ جَانٍ عَلَى حِدَةٍ وَهُمَا جَمِيعًا عَمْدٌ، أَوْ خَطَأٌ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَمْدٌ، وَالْأُخْرَى خَطَأٌ أُخِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنَايَتِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ الْفَاعِلِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ بُرْءٌ فَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنَايَتِهِ.
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا قَطَعَ يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَطَعَ تِلْكَ الْيَدَ مِنْ الْمِرْفَقِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالْقَطْعُ عَمْدٌ فَعَلَى قَاطِعِ الْكَفِّ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ وَعَلَى الْآخَرِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمْدٌ مَحْضٌ فَيَلْزَمُهُمَا الْقِصَاصُ كَمَا لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ عَمْدًا، وَالْآخَرُ رِجْلَهُ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ بِقَطْعِ يَدِهِ حَدَثَ فِي الْبَدَنِ آلَامٌ وَبِقَطْعِ الْآخَرِ الْيَدَ مِنْ الْمِرْفَقِ لَا تَنْعَدِمُ تِلْكَ الْآلَامُ، بَلْ تَزْدَادُ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ السِّرَايَةُ لِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ الْآلَامِ الَّتِي تَوَالَتْ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْطَعَ الثَّانِي تِلْكَ الْيَدَ، أَوْ يَقْطَعَ عُضْوًا آخَرَ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: فِعْلُ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ تَنْقَطِعُ بِهِ سِرَايَةُ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ انْقَطَعَ بِالْبُرْءِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْفِعْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا بِدُونِ بَقَاءِ مَحَلِّ الْفِعْلِ إذْ الْأَثَرُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَبِفِعْلِ الثَّانِي فَاتَ مَحَلُّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَانْقِطَاعُ السِّرَايَةِ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ أَقْوَى مِنْ انْقِطَاعِهَا بِالْبُرْءِ؛ لِأَنَّ الْبُرْءَ يَحْتَمِلُ النَّقْصَ وَفَوَاتُ الْمَحَلِّ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ بِهِ فَارَقَ مَا إذَا كَانَ فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الثَّانِي فِي مَحَلٍّ آخَرَ لَا يُفَوِّتُ مَحَلَّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَالْبُرْءِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْفِعْلَانِ خَطَأً كَانَتْ دِيَةُ الْيَدِ عَلَى الْأَوَّلِ وَدِيَةُ النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي عِنْدَنَا، وَالْعَمْدُ، وَالْخَطَأُ فِي هَذَا سَوَاءٌ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ عَمْدًا، ثُمَّ حَزَّ الْآخَرُ رَقَبَتَهُ بِالسَّيْفِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي، وَالْقِصَاصُ فِي الْيَدِ عَلَى الْأَوَّلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute