للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ.

وَلَوْ حَضَرَ الْوَرَثَةُ جَمِيعًا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحَاضِرِ وَقُضِيَتْ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ كَلَّفَهُمْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ ثُبُوتُهُ عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْغَائِبِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ مِنْ الْحَاضِرِ كَمَا لَوْ عَفَا الْوَرَثَةُ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلِينَ، أَوْ صَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا الْحَاضِرَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ يَهْرُبُونَ عَادَةً فَقَلَّ مَا يُظْفَرُ بِهِمْ جَمِيعًا فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ غَيْبَةِ مَنْ غَابَ أَدَّى ذَلِكَ إلَى سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ، وَالْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الْحَقِّ (أَرَأَيْت) لَوْ مَاتَ الْغَائِبُ أَوْ فُقِدَ فَلَمْ يُوقَفْ عَلَى أَثَرِهِ أَكَانَ يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ هَذَا الْحَاضِرِ وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْغَائِبِ حُجَّةٌ يَدْرَأُ بِهَا الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ حُجَّةٍ تُقْبَلُ مِنْ الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ إلَّا وَهِيَ مَقْبُولَةٌ مِنْ الْحَاضِرِ لَوْ أَقَامَهَا.

وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ أَقَامَا شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُمَا عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَقَتَلَاهُ، ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا قَالَ: قَدْ شَهِدْت الشُّهُودُ بِالزُّورِ وَأَبُونَا حَيٌّ غَرَّمْته نِصْفَ الدِّيَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا أَنَّهُمَا تَعَمَّدَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِقْرَارُهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا فَيَلْزَمُهَا الْقِصَاصُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّمَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي إنَّمَا يَكُونُ شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا قُضِيَ بِهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ قَضَاءُ الْقَاضِي كَمَا لَوْ رَجَعَ أَحَدُ شُهُودِ الزِّنَا بَعْدَ مَا رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا يَصِيرُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالرَّجْمِ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ لِهَذَا الْمَعْنَى.

وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: إنَّهُمَا قَتَلَاهُ بِشُبْهَةٍ، وَالْقَتْلُ بِشُبْهَةٍ يُوجِبُ الْمَالَ دُونَ الْقِصَاصِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ بِنَاءً عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُمَا بِالْقَوَدِ وَهَذَا قَضَاءٌ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ مُبِيحًا لَهُمَا الْقَتْلَ فَظَاهِرُهُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ مُبِيحًا لِلْوَطْءِ فَطَاهِرُهُ يُورِثُ شُبْهَةً وَهَذَا الظَّاهِرُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ حَقِيقَةً مُبِيحًا فَظَاهِرُهُ يُمَكِّنُ شُبْهَةً فِي الْمَحَلِّ، وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ تُؤَثِّرُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ بِالزِّنَا هُنَاكَ لَا تُبِيحُ شُبْهَةً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَكَذَلِكَ ظَاهِرُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>