عَمْرُو بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ: أَنَدِي مَنْ لَا عَقَلَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ يُطَلُّ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ؟ أَوْ قَالَ: دَعْنِي وَأَرَاجِيزَ الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ فَقَالَ: إنَّ لَهَا بَيْتًا هُمْ سُرَاةُ الْحَيِّ وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنِّي فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا قُمْ فَدِهِ» وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ وَعُذْرُهُ لَا يُعْدِمُ حُرْمَةَ نَفْسِ الْمَقْتُولِ وَلَكِنْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الدِّيَةَ صِيَانَةً لِنَفْسِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ، وَفِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْقَاتِلِ إجْحَافٌ بِهِ وَاسْتِئْصَالٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ عَنْهُ لِلْعُذْرِ فَضَمَّ الشَّرْعُ إلَيْهِ الْعَاقِلَةَ لِدَفْعِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْآلَةَ آلَةُ التَّأْدِيبِ وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَحْظُورًا مَحْضًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَلَا يَكُونُ جَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِدَفْعِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الدِّيَةَ هَاهُنَا مُغَلَّظَةً لِيَظْهَرَ تَأْثِيرُ مَعْنَى الْعَمْدِ وَأَوْجَبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ لِدَفْعِ مَنْعِ الْعُقُوبَةِ عَنْ الْقَاتِلِ.
ثُمَّ هَذَا الْفَصْلُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِضَرْبِ اسْتِهَانَةٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ وَتَقْصِيرٍ فِي التَّحَرُّزِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِقُوَّةٍ يَجِدُهَا الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ بِكَثْرَةِ أَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ وَإِنَّمَا يَنْصُرُهُ عَاقِلَتُهُ فَضُمُّوا إلَيْهِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى إعَانَةِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِينَ مَنْ اُبْتُلِيَ لِيُعِينَهُ غَيْرُهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِمِثْلِهِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّوَادِّ فَهَذَا هُوَ صُورَةُ أُمَّةٍ مُتَنَاصِرَةٍ وَجِبِلَّةُ قَوْمٍ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَبِهِ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْأُمَّةَ هَذِهِ، ثُمَّ كَانَتْ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْبَابٌ لِلتَّنَاصُرِ مِنْهَا الْقَرَابَةُ، وَمِنْهَا الْوَلَاءُ، وَمِنْهَا الْحِلْفُ، وَمِنْهَا مُمَاحَلَةُ الْعَدُوِّ، وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَكُونُوا حُلَفَاءَ لَهُ كَمَا كَانُوا حُلَفَاءَ لِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ لِيَكُونُوا حُلَفَاءَ لَهُمْ الْحَدِيثَ فَكَانُوا يَضِلُّونَ عَنْ حَلِيفِهِمْ وَعَدِيدِهِمْ وَيَعْقِلُ عَنْهُمْ حَلِيفُهُمْ وَعَدِيدُهُمْ وَمَوْلَاهُمْ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ كَمَا يَعْقِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ.
فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ صَارَ التَّنَاصُرُ بَيْنَهُمْ بِالدِّيوَانِ فَكَانَ أَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى فَجَعَلَ عُمَرُ الْعَاقِلَةَ أَهْلَ الدِّيوَانِ. بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَضَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وَسَّعَ الدِّيوَانَ فَجَعَلَ الْعَقْلَ فِيهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُلِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَبِهَذَا أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَقَالُوا: الْعَقْلُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ مِنْ الْعَاقِلَةِ.
وَأَبَى الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فَقَالَ: هُوَ عَلَى الْعَشِيرَةِ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute