أَقْرَبُ إلَيْهِ وَمَسْكَنُهُ الْمِصْرُ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ وَلَا يَخُصُّونَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْمِصْرِ عَطَاءٌ دُون مَنْ لَا عَطَاءَ لَهُ فَلِهَذَا كَانُوا عَاقِلَةً لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْقِلُ عَنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نَازِلًا وَأَصْحَابُ الْأَرْزَاقِ الَّذِينَ لَا أَعْطِيَاتِ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْأَرْزَاقِ خَلَفًا عَنْ الْأَعْطِيَاتِ فِي حَقِّهِمْ.
وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَوَاقِلُ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا خَطَأً فَدِيَتُهُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَمَعْنَى التَّنَاصُرُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ الْعَقْلُ يُوجَدُ فِي حَقِّهِمْ كَمَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَاقِلَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ إذَا وُجِدَتْ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً وَهُمَا أَجْنَبِيَّانِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ بِنُصْرَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُ مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ وَلَا كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمْ؛ لِأَنَّ التَّعَاقُلَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُوَالَاةِ وَالتَّنَاصُرِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: ٧٣] وَقَالَ {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: ٧٢]، فَلَمَّا انْقَطَعَتْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ، وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ حِين كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا.
وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَلَمْ يَقْضِ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ حَتَّى جَعَلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمَالِ الْجِنَايَةُ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ وَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِ الْكُوفَةِ وَبَعْدَ مَا تَحَوَّلَ إلَى دِيوَانِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ جِنَايَةٌ، وَإِنَّمَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عِنْدَ جِنَايَتِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى دِيوَانِ الْبَصْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ الْعَاقِلَةَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ
وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِقَضَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute