للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَخَذَ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِالثُّلُثِ أَوْ بِالْعِتْقِ لِلَّذِي أَوْصَى بِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ وَصِيَّتَانِ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ بِأَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ إنْسَانٍ، ثُمَّ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنَّ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُنَافَاةٌ فَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى، فَأَمَّا إذَا أَوْصَى إلَى إنْسَانٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِذَلِكَ الْعَبْدِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي الْمَحَلِّ وَمُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِأَحَدِهِمَا إنْ لَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ الْوَصِيَّةَ أَوْ لَمْ يَبْقَ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إنْ قَبِلَا جَمِيعًا الْوَصِيَّةَ فَلَا تَكُونُ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلُ التَّرْجِيحَ بِالسَّبْقِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَ الْمُوصَى لَهُ الثَّانِيَةَ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَمُوتُ وَلَمْ يَحُجَّ قَالَ إنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَمِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلَا شَيْءَ وَبِهَذَا نَأْخُذُ.

وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فَنَقُولُ فِيمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - خَالِصًا كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ وَلَكِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَوْصَى بِهِ كَمَا يَنْفُذُ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَهُوَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ مُؤَاخَذًا فِي الْآخِرَةِ بِالتَّفْرِيطِ فِي أَدَاءً بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ وَالزَّكَاةِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ أَوْ يُعْتَقُ بِهِ رَقَبَةٌ فَلَمْ تَتِمَّ الْحَجَّةُ وَلَا الرَّقَبَةُ قَالَ يُتَصَدَّقُ عَنْهُ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا، فَإِنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ تَجِبُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ التَّبْدِيلِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ قَالَ - تَعَالَى -: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة: ١٨١] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا يُحَجُّ بِثُلُثِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ لِقِلَّتِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِثُلُثِ مَالِهِ وَنَيْلُ الثَّوَابِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي التَّصَدُّقِ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ اعْتِبَارُ التَّعْبِيرِ فِي أَلْفَاظِ الشَّرْعِ يَجِبُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ حَمِيدَةٍ، فَأَمَّا فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ فَيُعْتَبَرُ اللَّفْظُ.

(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِلسُّنَّةِ فَطَلَّقَهَا بِغَيْرِ السُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ؟ وَالشَّرْعُ أَمَرَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ، وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لِغَيْرِ السُّنَّةِ كَانَ طَلَاقُهُ وَاقِعًا.

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلنَّصْرَانِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ وَهَكَذَا عَنْ شُرَيْحٍ وَبِهِ نَأْخُذُ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِعَقْدِ مُبَاشَرَةٍ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّبَرُّعِ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَأْسَ بِعَقْدِ الْهِبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>