للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يُبْطِلُهُ كَالتَّمْلِيكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَبِأَنْ كَانَ يُبْطِلُ الْإِرْثَ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ يُبْطِلُ الْوَصِيَّةَ كَالرِّقِّ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ يَنْفِي التَّوْرِيثَ وَلَا يَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ وَالْفَرْقُ لِلشَّافِعِيِّ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْجُرْحُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوصِيَ نَادِمٌ عَلَى وَصِيَّتِهِ رَاجِعٌ عَنْهَا، وَإِذَا كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بَعْدَ الْجُرْحِ فَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهَا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ الِانْتِدَابَ إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ السَّيِّئَةِ بِالْإِحْسَانِ وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا جَرَحَهُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَالْمُوصَى لَهُ قَصَدَ الِاسْتِعْجَالَ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ فَيُعَاقَبُ بِالْحِرْمَانِ كَالْمِيرَاثِ، فَأَمَّا إذَا أَوْصَى لَهُ بَعْدَ الْجِرَاحَةِ فَلَمْ يُتَوَهَّمْ قَصْدُ الِاسْتِعْجَالِ فِي تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَلَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَبَقِيَتْ الْوَصِيَّةُ عَلَى حَالِهَا.

وَجْهُ قَوْلِنَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ»، وَيَدْخُلُ الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ جَمِيعًا فِي عُمُومِ هَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ: «وَلَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ»، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْمِيرَاثِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ لِدَفْعِ الْمُغَايَظَةِ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ وَبُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَغِيظُهُمْ أَنْ يُقَاسِمَهُمْ قَاتِلُ أَبِيهِمْ تَرِكَةَ أَبِيهِمْ بِسَبَبِ الْإِرْثِ أَوْ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْوَصِيَّةُ عَلَى الْجُرْحِ أَوْ تَتَأَخَّرَ عَنْهُ وَبِهِ فَارَقَ الرِّقَّ وَالْكُفْرَ، فَإِنَّ الْحِرْمَانَ بِهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْوِلَايَةِ لَا لِدَفْعِ الْمُغَايَظَةِ عَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْأَهْلِيَّةِ لِلْوِلَايَةِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَبِخِلَافِ سَائِرِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُشَابِهُ الْإِرْثَ صُورَةً وَلَا مَعْنًى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ وَارِثًا فَأَوْصَى لَهُ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا تَجَوُّزٌ فِي الْعِبَارَةِ، فَإِنَّ الْقَاتِلَ لَا يَكُونُ وَارِثًا، وَإِنْ كَانَ وَارِثًا كَالصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَالْوَصِيَّةُ لِمِثْلِ هَذَا الْقَاتِلِ تَصِحُّ.

ثُمَّ الْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ وَصْفَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ يُجْزِئُ الْوَصِيَّةَ فَاجْتِمَاعُهُمَا أَوْلَى، فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ جَازَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَمْ تَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الزِّيَادَاتِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ، وَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْوَرَثَةَ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِرْمَانَ كَانَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْوَرَثَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِتَبَايُنِ الدَّارِ، وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْحَرْبِيِّ لِكَوْنِهِ مُحَارِبًا حُكْمًا وَالْقَاتِلُ مُحَارِبٌ لَهُ حَقِيقَةً فَلَأَنْ لَا تَنْفُذَ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ كَانَ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي نَفْسِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ مَشْهُورٌ، وَفِي نَفْيِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ مَسْبُورٌ وَالْعُلَمَاءُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ، ثُمَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>