مَاتَ كَانَ مِيرَاثًا أَمَّا عِنْدهمَا؛ فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ لَا يَلْزَمُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهَذَا بِخِلَافِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَقَرُّبٌ بِتَحْرِيرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَجَعْلِهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يُعِدُّهَا لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا بُقْعَةُ الْبِيَعِ فَإِنَّمَا يَعُدُّهَا لِلتَّبَرُّكِ وَعِبَادَةِ الشَّيَاطِينِ، فَلَا تَتَحَرَّرُ بِهِ عَنْ مِلْكِهِ؛ فَلِهَذَا تَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ.
وَوَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّاةِ وَالْعَصِيرِ فِي حَقِّنَا.
وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ إلَى الْمُسْلِمِ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَخْلُفُ الْمُوصِي وَكَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ يَمْنَعُ الْخِلَافَةَ بِسَبَبِ الْإِرْثِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ الْخِلَافَةَ فِي التَّصَرُّفِ بِجِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَيْهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ بِجِهَةِ الْإِيصَاءِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْوَصِيَّةِ كَتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ فِي الْوَكَالَةِ فِي حَيَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ خَمْرٌ أَوْ خِنْزِيرٌ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوَكِّلَ بَيْعَ ذَلِكَ مَنْ يَثِقُ بِأَمَانَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا يُبَاشِرُهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ شَرْعًا وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ.
وَإِذَا شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِدَيْنٍ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْوَصِيُّ مُسْلِمٌ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْوَصِيِّ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ ذِمِّيًّا لَوْ وَكَّلَ بِخُصُومَتِهِ مُسْلِمًا فَشَهِدَ عَلَيْهِ شُهُودٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ، قَالَ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ بِمَا تَوَلَّاهُ الْوَصِيُّ مِنْ عُقُودِهِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْعَقْدَ لِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةٍ هِيَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ
وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ أَوْ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَنَا اعْتِبَارًا لِلتَّبَرُّعِ بِالتَّمْلِيكِ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِالتَّبَرُّعِ حَالَةَ الْحَيَاةِ
وَلَوْ أَوْصَى الْمُسْلِمُ بِبَيْتٍ لَهُ يُبْنَى مَسْجِدًا فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّبَ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى حِينَ جَعَلَهَا مُعَدَّةً لِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ فِيهَا.
وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُرَمَّ مَسْجِدٌ مَبْنِيٌّ أَوْ يُلْقَى فِيهِ حَصًى أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُعَلَّقَ عَلَيْهِ أَبْوَابٌ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيمَا أَوْصَى بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِلْمَسْجِدِ، وَذَكَر فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ فَيَقُولُ: لِمَرَمَّةِ الْمَسْجِدِ أَوْ لِعِمَارَتِهِ أَوْ لِمَصَالِحِهِ فَإِنَّ مُطَلَّقَ قَوْلِهِ لِلْمَسْجِدِ يُوجِبُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَسْجِدِ كَقَوْلِهِ لِفُلَانٍ، وَالْمَسْجِدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يُقَيِّدُ مُطَلَّقَ لَفْظِهِ، وَفِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ مَرَمَّةُ الْمَسْجِدِ أَوْ عِمَارَتُهُ.
وَإِنْ جَعَلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute