للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِ التَّصَدُّقِ مَا يُنْبِئُ عَنْ التَّقَرُّبِ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَقَرَّبُ إلَى عِبَادِهِ قَالَ: وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا، وَمُرَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَكُمْ ثُلُثَ أَمْوَالِكُمْ لِتَكْتَسِبُوا بِهِ لِأَنْفُسِكُمْ فِي حَالِ حَاجَتِكُمْ إلَى ذَلِكَ، وَلَفْظُ التَّصَدُّقِ مُسْتَعَارٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: ٢٤٥]، وَالِاسْتِقْرَاضُ يَكُونُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَاجُ إلَى عِبَادِهِ فَيَسْتَقْرِضُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّ لَفْظَ الْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَالِاسْتِعَارَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَقَرَّبُ إلَى عِبَادِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَأْثُرُهُ عَنْ رَبِّهِ: «لَا أَزَالَ أَتَقَرَّبُ إلَى عَبْدِي وَهُوَ يَتَبَاعَدُ عَنِّي. وَقَالَ مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا».

ثُمَّ نَقُولُ: الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ شَرِيكُ الْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ، وَلِهَذَا يُزَادُ حَقُّهُ بِزِيَادَةِ التَّرِكَةِ، وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ التَّرِكَةِ، وَلَا يُقَدَّمُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لَهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمِيرَاثِ إلَى الْوَارِثِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ ثَبَتَ لَهُ بِمِثْلِ مَا ثَبَتَ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْوَارِثِ، وَهُوَ السَّهْمُ السَّابِعُ الْمَذْكُورُ مِمَّنْ يَمْلِكُ الْإِيجَابَ لَهُ فَالْمِيرَاثُ لِلْوَرَثَةِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ السِّهَامِ وَالسُّدُسِ وَالرُّبْعِ وَالثُّلُثِ؛ فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَالسُّدُسِ تَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْإِيجَابَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ إلَى الْمُوصِي لِلْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ جَمِيعًا ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى نَصِيبَ الْأَقَارِبِ فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ فَبَقِيَ الْإِيجَابُ لِلْأَجَانِبِ فِي مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا كَانَ إلَى الْمُوصِي، وَهُوَ بِهَذَا الْإِيجَابِ يَجْعَلُ الْمُوصِيَ خَلِيفَةَ نَفْسِهِ فِيمَا سُمِّيَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَتُهُ شَرْعًا.

(أَلَا تَرَى) أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ الْمَالِ صَحِيحَةٌ فِيمَنْ لَا مَالَ لَهُ فِي الْحَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُ الْخِلَافَةَ ثُمَّ مَلَكَ الْمَالَ مِنْ ثَمَرَاتِ تِلْكَ الْخِلَافَةِ، وَلِهَذَا كَانَ وُجُوبُهَا بِالْمَوْتِ بِمَنْزِلَةِ الْوِرَاثَةِ.

إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ، وَلَهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا قِيمَتُهَا ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ الدَّنَانِيرِ أَوْ ثُلُثُ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ مَالَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ الْجِنْسَانِ، وَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ الْوَصِيَّةَ بِثُلُثِ مَالِهِ، وَلَيْسَ صَرْفُ هَذَا الْإِيجَابِ إلَى أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَسْتَحِقُّ ثُلُثَ كُلِّ جِنْسٍ، وَهُوَ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَكَمَا أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ يَثْبُتُ فِي ثُلُثَيْ كُلِّ جِنْسٍ فَكَذَلِكَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ فِي ثُلُثِ كُلِّ جِنْسٍ فَإِنْ هَلَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ دِينَارًا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ قَبْلَهُ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ الْعَشَرَةِ الْبَاقِيَةِ أَوْ ثُلُثُ ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ مَا هَلَكَ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ ثُلُثَ مَالِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ مَا هَلَكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَبْلَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبَقَّاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ، وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ فِيهَا زِيَادَةٌ يُقْضَى

<<  <  ج: ص:  >  >>