يَعُودَ فُلَانًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ قُرْبَةٌ شَرْعًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَائِدُ الْمَرِيضِ يَمْشِي عَلَى مَحَارِفِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ» وَعِيَادَةُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَا يَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهَا مَقْصُودًا لِلنَّاذِرِ بَلْ مَعْنَى مُرَاعَاةِ حَقِّ فُلَانٍ فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ: عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَتَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَقْصُودُ حَقُّ الْمَرِيضِ وَالْمَيِّتِ وَالنَّاذِرُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ بِنَذْرِهِ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَقْصُودًا.
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: النَّذْرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِالصَّوْمِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الِاعْتِكَافِ فَنَبْدَأُ بِالنَّذْرِ بِالصَّدَقَةِ فَنَقُولُ: إمَّا أَنْ يُعَيِّنَ الْوَقْتَ بِنَذْرِهِ فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ غَدًا أَوْ يُعَيِّنَ الْمَكَانَ فَيَقُولُ: فِي مَكَانِ كَذَا أَوْ يُعَيِّنَ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ: عَلَى فُلَانِ الْمِسْكَيْنِ أَوْ يُعَيِّنَ الدِّرْهَمَ فَيَقُولُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ وَفِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْمَنْذُورِ عِنْدَنَا، وَيَلْغُو اعْتِبَارَ ذَلِكَ التَّقْيِيدِ حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمِسْكَيْنِ أَوْ بِدِرْهَمٍ غَيْر الَّذِي عَيَّنَهُ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ مُوجِبِ نَذْرِهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ كَمَا الْتَزَمَهُ قَالَ: لِأَنَّ فِي أَلْفَاظِ الْعِبَادِ يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتِي لِلسُّنَّةِ فَطَلَّقَهَا لِغَيْرِ السُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ عَلَى فُلَانٍ الْفَقِيرِ فَتَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ مُخَالِفًا وَهَذَا؛ لِأَنَّ أَوَامِرَ الْعِبَادِ قَدْ تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ فَائِدَةٍ حَمِيدَةٍ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى فِيهَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ اللَّفْظُ فَلَا يَحْصُلُ الْوَفَاءُ إلَّا بِالتَّصَدُّقِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي الْتَزَمَهُ وَعُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا مَا يُوجِبُهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا عَلَى عِبَادِهِ صَحَّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ وَمَا لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا عَلَى عِبَادِهِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ ثُمَّ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ التَّصَدُّقِ بِالْمَالِ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَاب قَبْلَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الْفِطْرِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَذَلِكَ فِي الْتِزَامِ الصَّدَقَةِ لَا فِي تَعْيِينِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْمِسْكَيْنِ وَالدِّرْهَمِ.
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ التَّعْيِينِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا مَا لَيْسَ بِمُفِيدٍ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي التَّصَدُّقِ بِاعْتِبَارِ سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ إذْ أَخْرَجَ الْمُتَصَدِّقُ مَا يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ عَنْ مِلْكِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِدُونِ مُرَاعَاةِ تَعْيِينِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ مِنْ اعْتِبَارِ اللَّفْظِ فَإِنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ لَمْ تَكُنْ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute