بَلْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ فَإِنَّ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَلِهَذَا اعْتَبِرْنَا تَعْيِينَ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ فَصَارَ فُلَانٌ مُوصَى لَهُ بِمَا سُمِّيَ فَإِذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ مُخَالِفًا أَمْرَ الْمُوصِي، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ لَمْ يُجْزِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إذَا جَاءَ غَدٌ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ النَّذْرَ بِالشَّرْطِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْأَدَاءُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ هُوَ النَّذْرُ فَإِذَا عَلَّقَهُ بِالشَّرْطِ كَانَ مَعْدُومًا قَبْلَهُ، وَهُنَا أَضَافَ النَّذْرَ إلَى وَقْتٍ وَالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي الْحَالِ فَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَجُوزُ التَّعْجِيلُ قَبْلَ قُدُومِ فُلَانٍ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَة فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ.
وَأَمَّا النَّذْرُ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهُ إلَى مَكَان أَوْ زَمَانٍ أَمَّا إذَا أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ رَجَبَ فَصَامَ شَهْرًا قَبْلَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ الْمَنْذُورِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يُجْزِئُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ رَجَبَ فَاعْتَكَفَ شَهْرًا قَبْلَهُ أَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ غَدًا فَصَلَّى الْيَوْمَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّلَاةِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهِ فَارَقَ الصَّدَقَةَ؛ لِأَنَّ بِالنَّذْرِ بِالصَّوْمِ جَعَلَ مَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْوَقْتِ نَفْلًا وَاجِبًا بِنَذْرِهِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إضَافَةُ النَّذْرِ بِالصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِيهِ نَفْلًا وَالْمَشْرُوعُ مِنْ الصَّوْمِ فِي وَقْتٍ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَنَذْرُهُ تَعَلَّقَ بِالصَّوْمِ الْمَشْرُوعِ فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ حَتَّى يَتَأَدَّى فِيهِ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِالنِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ صَوْمُ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنَذْرِهِ لَمَا تَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ النَّذْرَ بِالصَّوْمِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّ النَّاذِرَ يَلْتَزِمُ بِنَذْرِهِ الصَّوْمَ دُونَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الصَّوْمِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَمَلَ بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ وَتَعْيِينُ الْوَقْتِ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا كَمَا فِي الصَّدَقَةِ وَلَا يُقَالُ: الصَّوْمُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قَدْ يَكُونُ أَعْظَمَ فِي الثَّوَابِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فِي صَوْمِ الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَفِي صَوْمِ بَعْضِ الشُّهُورِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute