كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْحِنْثِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ قَوْلِهِ لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ كَانَ حَلَفَ لَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا بِإِخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ، وَلَا دَاخِلًا بِإِدْخَالِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: مَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَأَخْرَجَتْ إحْدَى رِجْلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُرُوجَ انْتِقَالٌ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْقَدَمَيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ ثُمَّ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تَفْضِيلِ آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ عَلَى غَيْرِهَا هُوَ الثَّوَابُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ - تَعَالَى - غَيْرُ مُحْدَثٍ وَلَا مَخْلُوقٍ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ السُّوَرِ وَالْآيِ فِي هَذَا وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْقَارِئَ يَنَالُ الثَّوَابَ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَا لَا يَنَالُهُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ أُخْرَى بَيَانُهُ أَنَّهُ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ يَسْتَحِقُّ مِنْ الثَّوَابِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ بِقِرَاءَةِ تَبَّتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْإِقْرَارُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَفِي قِرَاءَةِ سُورَةِ تَبَّتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا مَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعَانِي الْأُخْرَى، وَمَا نُقِلَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْآثَارِ مِنْ نَحْوِ مَا رُوِيَ أَنَّ «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكَأَنَّمَا خَتَمَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَافِرُونَ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ» تَأْوِيلُهُ مَا بَيَّنَّا وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا: اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلَى تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ لِلْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاجِبًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فَرْضًا.
وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ مَا يُغْنِي الْمُسْلِمَ عَنْ الْكَذِبِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ، وَاَلَّذِي يَرْوِي حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالرَّجُلِ يَكْذِبُ لِامْرَأَتِهِ وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ» تَأْوِيلُهُ فِي اسْتِعْمَالِ مَعَارِيضِ الرِّجَالِ الْكَلَامَ فَإِنَّ صَرِيحَ الْكَذِبِ لَا يَحِلُّ هُنَا كَمَا لَا يَحِلُّ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ.
وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّ الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَذَبَ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ إنْ صَحَّ، فَتَأْوِيلُ هَذَا: أَنَّهُ ذَكَرَ كَلَامًا عَرَّضَ فِيهِ مَا خَفِيَ عَنْ السَّامِعِ مُرَادُهُ، وَأَضْمَرَ فِي قَلْبِهِ خِلَافَ مَا أَظْهَرَهُ فَأَمَّا الْكَذِبُ الْمَحْضُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، وَالْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - كَانُوا مَعْصُومِينَ عَنْ ذَلِكَ وَمَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرَائِعَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَإِذَا جَازَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ جَازَ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ.
وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ، وَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute